محمد عبد اللطيف يكتب .. حكايات منسية


منذ أن تفتحت أيامى على الحياة، وأنا أعلم أن الله يقيم اقامة دائمة فى صدور الطيبين ، يقيهم من شرور أنفسهم ، وينتصر لهم من قسوة الحياة ... يعبُر بهم من ضيق الحال الى شواطئ البهجة، وهم بلا حيلة، فيتعجب ذوى الحيل، يأخذ الله بأيديهم الى عوالم رحبة تتسع لهم بقناعتهم وصفاء نفوسهم، عوالم تستيقظ فيها الهمم من غفوتها،فتتبدد الهموم، عوالم تجعل بيوتهم الطينية الفقيرة قصوراً ...هؤلاء هم قوت القلوب، لكننا نعيش الآن فى زمن عًزت فيه الأقوات .. لقد رحل الطيبون وبقيت الحكايات .
كلما سافرت الى بلدتى هناك فى الصعيد الجوانى ،أتذكرهم ،وأجدنى هائماً فى عشق الدروب والبيوت والأمكنة...
تتزاحم فى رأسى ذكريات الماضى البعيد، حكايات النسوة فى الـ "هرجة"، حلقات الذكر وانشاد المداحين، ورايات الدراويش فى زفات الموالد ..صراخ المجاذيب وبيوت الغجر والحلب على أطراف القرية.... أغنيات الحصاد فى مواسم جنى المحصول، والجرون والنوارج ،وحفلات الزواج والطهور واللمة على الـ "طبلية " .... سهرات رمضان والمقرئين فى دواوين العائلات، صفارة الطاحونة للاعلان عن بدء الافطار ،أغنيات الصبية وقت آذان المغرب ، زيارة القبور فى الأعياد، فرحة الأطفال بالجلابية الجديدة، كل ذلك لم يعد موجوداً الآن، ولو فى صورة أطلال أو آثار بالية، اندثرت جميعاً، ولم يتبق منها سوى حكايات محفورة فى الأذهان، تأبى أن ترحل أو تتوه فى دائرة النسيان، حتى متعة السفر فى أغوار الانسان ، صارت عصية.. تغير الناس وتبدلت الطباع، وكل ما كان أصبح ذكريات، نجترها وقت أن نلوذ بها الى زمن البساطة والبراءة.. زمن كان يحنو فيه الكبير على الصغير ، ويوقر الصغير الكبير .
اننى أتحدث عن زمن عشت تفاصيله من الطفولة الى الصبا ،وحتى بدايات عنفوان الشباب ..تفاعلت مع حكاياته التى تشبه أساطير الأزمنة السحيقة... قى تلك السنوات البعيدة كنت صبياً غارقاً فى الشقاوة التى تلائم عمرى ، شأن كل أقرانى وقتها.
فى تلك الفترة تركنا بيت العائلة المكون من طابقين فى أحد الدروب الضيقة، حيث كنا نقيم مع جدتى لوالدى، وبنينا بيتاً من الطين فى "كرم هنب" ،وهذا الكرم ملك لعائلتى ويوجد به بيوت أبناء عمومتى، وهى مبنية بالطين أيضاً ،قبل أن ننتقل الى بيوت الأسمنت المسلح بعد أن فقدت بلدتنا بكارتها، فهى لم تعد كما كانت قرية ، ولم تصبح مدينة على غرار المدن التى نشتهيها ،أما الكرم فهو عبارة عن غابة من أشجار النخيل ،زرعها أجدادى منذ أزمنة بعيدة ،كان الكرم قريباً جداً من طاحونة البلدة ،وهى تمثل تاريخاً مهماً ،على الأقل لدى عائلتى الكبيرة، سأرويه فى سياق تلك الحلقات ،كانت الطاحونة،وقتها، وسيلة الاعلام الوحيدة التى تخبر الناس بموعد الافطار والامساك فى شهر رمضان، عبر اطلاق صفارة من "شكمان العادم" ، فيتردد صداها فى الحقول المتناثرة، ويستعد الناس التى تقطن الأطراف البعيدة لتناول افطارهم، على صوت الصفارة ، فكثير من البيوت، ان لم يكن غالبيتها" ليس لديهم مذياع ، ولم تكن هناك مكبرات صوت فى المساجد رغم كثرتها وانتشارها فى ربوع القرية .
كنت وأقرانى نذهب الى الطاحونة فى انتظار اطلاق الصفارة، لنتسابق بعدها جرياً الى منازلنا لاخبار أهالينا ، رغم أنهم سمعوا الصفارة، لكنها كانت متعتنا كصبية ، أن نذهب الى بيوتنا ونحن نغنى ونردد مع بعضنا البعض بصوت عال " أدن أدن .. عيشه عطن .. صحن فطير للـ ... صحن بصارة للـ..." ،أما فرحتنا الكبيرة فكانت عندما نقف فى الشارع لنعطى المارين بعضاً من ثمرات البلح، لأنهم تأخروا عن الوصول الى منازلهم بسبب أعمال كانوا يؤدونها أو حوائج كانوا يقضونها ، أو غريباً يركب حماره متوجها الى بلدته .، أو الذهاب الى الجامع بصحن زلابيا أو بعضاً من الطعام المتواضع لرواد الطاحونة من قاطنى المناطق البعيدة أو القرى المجاورة، كانت موائد الرحمن وقتها بسيطة ورائعة مثل بساطة الناس وروعتهم ، كان البعض يفرشون الحصيرة أمام منازلهم ويضعون عليها الطبلية ،ويفطرون فى الشارع ويبقون حتى قرب صلاة العشاء ليقدموا للمارة الافطار ..... حكايات الطاحونة فى حرب أكتوبر 1973... الحلقة القادمة .