الإعلامي أحمد رجب يكتب..من يحاسب عليش ؟!


ربما كنت أنا وجيلي من مواليد منتصف سبعينات القرن الماضي قد حظينا بأخر ما تبقي من عبق ورائحة الزمن الجميل بكل ما كان يحمل هذا الزمن من لمسات ونسمات هي أشبه بنسمات السحر التي تقشعر لها الأبدان حين تسري في الجسد قبل بزوغ فجر يوم جديد .
عشت أنا وجيلي في محراب هذة الفترة الحالمة من عمر الوطن .. شاهدنا بأعيننا حفلات أضواء المدينة ما بين كلمات كتبها عمالقة الشعر الغنائي في مصر في ذلك الوقت أمثال مرسي جميل عزيز ومحمد حمزة وحسين السيد واقشعر الجسد وتمايل كأوراق الشجر وأغصان الورود مع ألحان بليغ حمدي والموجي وعبدالوهاب .. ضحكنا من القلب مع القدير رحمة الله فؤاد المهندس وحسن عابدين ويونس شلبي وممدوح وافي وسمير غانم وجورج والضيف أحمد وقبلهم عادل إمام وأحمد بدير وغيرهم .. حتي في الأفلام التجارية أو ماكان يطلق عليها في ذلك الوقت أفلام المقاولات كنا نضحك من القلب .
وكنا نبكي أيضا من القلب مع روائع دراما الفيديو والسينما ولا يتسع المقام هنا كي أحصرها لكم ولكن أنا شخصياً كنت أبكي مع رائعة العالمي نجيب محفوظ " اللص والكلاب " وكنت أتساءل وأنا طفل لم ابلغ حتي من العمر عتية وأقول واهمس لنفسي البريئة وأتسائل " من الذي يستطيع أو يجرؤ أن يحاسب هذا الخائن الفاجر الذي يدعي عليش ؟؟!!" .
ومرت سنوات العمر كالبرق وحلت الثمانينات والتسعينات ودخلنا في الألفية وما أعقبها من سنوات عجاف رحل فيها معظم المبدعين والعمالقة من شعراء وكتاب صحفيين وأدباء وفنانين كبار ومطربين عظام وغيرهم كثيرين .. وظل عليش يطارد بصري وبصيرتي في كل زمان ومكان .. وجدتة وقد زاد نسلة وتضاعف عرقة وكثر عددة .. أصبحت القاعدة أو النظرية السائدة والقاعدة المثلي هي الغدر والخيانة وقلة الأصل والتسلق والنفاق والمحاباة والجهل والحقد والغيرة والنميمة والتضحية بأي شئ في أي وقت وفي أي زمان أو مكان من أجل تحقيق أي هدف دنئ أو منحط !! .
وكلها شرح لنظرية عليش .. هذا الكلب الذي كان مجرد كلب يشاركة كلاب اخرين عددهم كان محدود في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
ولأن عليش هو شخصية حقيقية من محافظة الإسكندرية ولعل أصدقائي هناك وابرزهم المربي الفاضل والفنان والأديب الرائع الذي لايعرف في الحق لومة لائم الأستاذ حسين حسين الفطراني يعلم كل العلم شخصية هذا الكلب الذي يدعي عليش والذي عاش علي أرض الإسكندرية سنوات عديدة في منتصف القرن الماضي وكان يتظاهر بالوفاء والإخلاص لصديق عمرة سعيد مهران وكان الاخير يثق فية كل الثقة.
واستطاع عليش أن يكيد لصديق عمرة سعيد مهران حيث يدخل الاخير السجن ظلماً وبعد خروجه يكتشف الطامة الكبري .
بجد عليش صديق عمرة وقد تزوج من زوجتة نبوية وعاش معها في نفس بيت سعيد القديم بل ونصب نفسة أباً مخلصاً وفياً مكافحاً ليخدع ابنة سعيد التي أصبحت شابة ولم تتذكر أي شئ عن والدها المسكين المظلوم الذي دخل السجن ظلماً وكانت هي في ذلك الوقت ذات لم تستكمل عامها الخامس .
حتي مكتبة سعيد التي كان يحتفظ بها في بيتة ويعتز بها وبمحتوياتها القيمة ومتعلقاتة وخواطرة نسبها عليش إلي نفسة .. بعض هذة الكتب كان يستعيرها سعيد من صديقة الصدوق الكاتب الصحفي رءوف علوان وكان سعيد بطيبة قلبة وجدعنتة وشهامتة يظن أن رءوف لم ولن يتركة أبدا في هذة المحنة القاسية وذهب إلي منزل رءوف إلا أن الأخير تعامل معة بجفاء وعلو وكبرياء لأنة من وجهة نظرة خريج ليمان طرة رغم أن رءوف كان علي يقين أن سعيد مظلوم حتي الثمالة ولكن كان رءوف هو الآخر كلب من كلاب المجتمع في ذلك الوقت ولم يكن يدري سعيد .
وهكذا وجد سعيد نفسة وسط عدد ضئيل من الكلاب المسعورة التي نهشت جسدة حياً وهو الذي لم يقترف أي شئ إلا أنة كان مخلصاً محباً شهماً مع الجميع فلجأ إلي الجريمة .
سعيد مهران لم يكن أبداً حرامي أو لص لكنة كان يريد الانتقام فقط من الكلاب وحتي في إنتقامة ذاك لم يحالفة الحظ فبدلاً من أن يقتل عليش ونبوية قتل شخص آخر بالخطأ وبدلا من أن يقتل رءوف علوان أصاب شخص آخر بالخطأ وتحول إلي قاتل وسفاح وكتبت عنة كبري الصحف المصرية والعربية ووصفتة بالسفاح سفاح الإسكندرية ولم يدري أحد ولم يخطر علي بال أحد أن سعيد كان ضحية لهذا الكلب الظالم الخائن الذي يدعي عليش .
ومات سعيد مقتولاً بستة عشر رصاصة أليه من رصاصات الشرطة حيث تم القبض علية وتحديد مكانة من خلال الكلاب البوليسية .. مات المظلوم وعاش الظالم ولكن عدل الله قائم وإن لم يحل علي الأرض فعدل الله مكتمل في السماء ويوم تقوم الساعة يأخذ كل ذي حقاً حقة !!
وهنا أنا لا ابرئ سعيد أو أتعاطف مع القاتل ولكن كل ما أود أن أشير إلية ياسادة هو الإنتباة والحذر والحيطة من شخصية عليش التي بدأت تتفشي إن لم يكن قد تفشت وتوغلت وإنتشرت في المجتمع بشكل غير طبيعي .
عندما إقتبس الأديب العالمي نجيب محفوظ تفصيلات هذا الحادث المروع الذي وقع في محافظة الإسكندرية لم يكن إقتباسة لهذة الحادثة وتقديم روايتة الشهيرة التي تحمل إسم " اللص والكلاب " والتي تحولت بعد ذلك إلي فيلم سينمائي من إخراج المبدع الراحل كمال الشيخ سوي إلقاء الضوء علي هذا الخلل الذي أصاب المجتمع المصري في ذلك الوقت وقد حققت الرواية والفيلم معاً نجاحاً درامياً منقطع النظير .. وأنا هنا ياسادة أكرر أن المقصود من المقال ليس سرد أو تحليل أو تدقيق أو نقد لعمل إبداعي أو روائي ولكن وكما بدأت المقال فقد عشت أنا وجيلي أواخر الفترة الذهبية الإبداعية في مصر التي لم يكن يعكر صفوها سوي بعض الحوادث الفردية التي لم تكن تعبر عن جوهر وحقيقة المجتمع المصري في ذلك الوقت وعندما حدثت فاجعة عليش وما أعقبها من تدهور حاد في سياق المناخ المصري الحالم في ذلك الوقت وجدها نجيب محفوظ حجر زاوية ومناط لدهس شبح قد يتولد معة اشباح وكلاب تفترس الأخضر واليابس .
لم يكن يدري أو يعلم أو حتي يدرك أديب نوبل أننا أضحينا الآن وقد أصبح عليش هو القاسم المشترك في خراب معظم البيوت المصرية بل وخراب العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية.. لم يدرك نجيب محفوظ أن أعداد الكلاب البشرية قد زادت وتضاعفت واصبح نباحها يخدش الحياء العام لتدخل قاسم مشترك حتي في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
أفيقوا ياسادة لنظرية عليش .. إنتبهوا لعلاقاتكم .. لاتمنحوا الثقة لأي بني آدم علي وجة الأرض .. لا أصدر لكم صورة قاتمة بقدر ما أنا حريص علي شئ واحد فقط وهو " شرح نظرية عليش " والتساؤل بعدها " من يحاسب عليش " ؟!! ....