الدكتور عادل عامر يكتب الاثار المتعددة للإبادة الجماعية


تظل الحرب العالمية الثانية نزاعًا يتسم بعنف رهيب لم يسبقه مثيل، إذ لم ينحصر في ما ارتكبه المقاتلون ضد بعضهم بعضًا، بل في أن أغلبه طال المدنيين مباشرة، فجاءت الخسائر فادحة بسبب نزعة الإنسان إلى شن الحروب والنزاعات منذ حرب الثلاثين سنة.
وبعد اكتشاف معسكرات الاعتقال النازية، وإدراك مدى نطاق الإبادة الجماعية التي دارت داخل جدرانها، اتضح حجم الفاجعة التي كابدها العالم خلال الفترة من 1939 إلى 1945، فزاد هولها درجات. ولكي نستحضر ما ساد من شعور في تلك الحقبة، فلربما يكفينا الاستشهاد بما قاله الجنرال أيزنهاور وهو يزور مخيم إبادة نازي في عام 1945 بأنه " يتعين على العالم معرفة ما حدث،
ولا يجوز لنا أن ننسى ذلك أبدًا ومما لا شك فيه أن مأساة الحرب العالمية الثانية أدت بشكل حاسم إلى اتخاذ قرار صياغة اتفاقيات جنيف لعام 1949 حيث سعت الاتفاقيات إلى سد ثغرات في القانون الدولي الإنساني كشفها النزاع.
ومع ذلك، فإن القول بأن ما تحقق من تقدم في عام 1949 يرجع أساسًا إلى ويلات الحرب العالمية الثانية قول فيه نظر، إذ لا يجب إغفال حقيقة أن موضوع النهوض بحماية ضحايا الحرب (خاصة المدنيين) قد دارت بشأنه نقاشات قبل اندلاع الحرب ذاتها.
وفي ما يخص المؤتمر الدبلوماسي لعام 1929 حيث اعتمدت اتفاقية أسرى الحرب، فقد حَدَا اللجنة الدولية آمال كبيرة بأن الدول ستُظهر مزيدًا من حسن النية آنذاك بشأن المدنيين، لكن آمالها هذه تبخرت بعد حين. وقد أدى فتور حماس مختلف الحكومات إلى تأجيل موعد عقد المؤتمر الدبلوماسي، ولم تستطع سويسرا الإعلان عنه إلا في يونيو/حزيران، 1939، وحُدد تاريخه في بداية عام 1940. وجميعنا يعلم ما آل إليه مكر التاريخ بعد ذلك.
ساند الخبراء الحكوميون مقترحات اللجنة الدولية، بما في ذلك فكرة جديدة دعت إلى تطبيق الاتفاقيات على جميع حالات النزاعات المسلح، بما فيها النزاعات الداخلية. وقد كان لهذه المؤازرة أن زادت في حماس اللجنة الدولية حيث بادرت إلى إخطار السلطات السويسرية برغبتها في عقد مؤتمر دبلوماسي آخر. وخلال الفترة ذاتها، وافق المشاركون في المؤتمر الدولي السابع عشر للصليب الأحمر في ستوكهولم في عام 1948 على مراجعة اتفاقيات جنيف وتكييفها.
انطلق المؤتمر الدبلوماسي في 21 أبريل/نيسان بمشاركة ممثلين من 64 بلدًا، أي مجموع دول العالم تقريبًا آنذاك. واستنادًا إلى روايات شهود عيان من بلدان مختلفة، لم يعرف أي مؤتمر آخر ما تميز به هذا المؤتمر من إعداد جيد. ومع ذلك، استغرقت فترة تحضيره أربعة أشهر تقريبًا، مما فاجأ العموم، وفاقت مدة انعقاده ما كان متوقعًا، في حين ساد بين المشاركين شعور بالتفاؤل، إن لم نقل إحساس بالعِشرة، والصدق في الطرح، ولو أن العالم دخل لتوه حقبة الحرب الباردة.
وبعد مختلف المداولات، اعتمد المؤتمر الاتفاقيات الأربع التالية:
- اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان؛
- اتفاقية جنيف لتحسين حال جرحى ومرضى وغرقى القوات المسلحة في البحار؛
- اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب؛
- اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.
وعموما، ساهمت هذه النصوص الأربعة إسهامًا عظيمًا في توسيع نطاق القانون الدولي الإنساني. وظهر أن المادة 3 المشتركة بين اتفاقيا ت جنيف الأربع حققت نصرًا لا يفوقه نصر، إذ توسع نطاق مبادئ الاتفاقيات ليشمل النزاعات المسلحة غير الدولية، متجاوزًا بذلك تلك الصعوبات المرتبطة بمبدأ السيادة الوطنية.
فاستنادًا إلى المادة 3، أصبحت الأطراف في النزاعات المسلحة الداخلية مُلزَمة باحترام حقوق الإنسان الأساسية. فلا غرو إذن أن تكون المادة 3 قد أفرزت أشد مناقشات المؤتمر حدة وأطولها مدة.
ولعل اعتماد الاتفاقية الرابعة، التي تمنح المدنيين نفس الحماية التي تمنحها لضحايا الحرب الآخرين، يظل أهم تقدم تحقق حينها. فقد وصفها السيد " بول روغير " ، رئيس اللجنة الدولية في ذلك الوقت، أنها " معجزة " ، إذ مكنت المشاركين من سد أشد الثغرات خطورة وهي الثغرات التي كشفتها الحرب العالمية الثانية وحروب أخرى سبقتها.
تُؤرخ اتفاقيات جنيف الأربع بيوم 12 أغسطس/آب 1949، الذي يسجل تاريخ التوقيع على البيان الختامي للمؤتمر الدبلوماسي الذي ألحقت به الاتفاقيات. كما وقَّع في الوقت ذاته 18 وفدًا حكوميًا الاتفاقيات الأربع الجديدة.
وتم عَقد حفل توقيع ثان في جنيف في 8 ديسمبر/كانون الأول 1949، بعد أن طلبت وفود أخرى إمهال حكومات بلدها بعض الوقت لدراسة نصوص الاتفاقيات عن كثب. وبهذه المناسبة، بَصَم ممثلو الحكومات توقيعهم على الاتفاقيات الجديدة على نفس الطاولة التي استُخدمت للتوقيع على اتفاقيات جنيف لعام 1864، في إيماءة حُبلى بأكثر من رمز تاريخي.
وقد لاقت اتفاقيات جنيف نجاحًا هائلاً منذ الوهلة الأولى، ودخلت حيز النفاذ في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1950بعد التصديقين الأولين. وصادقت عليها 74 دولة في عقد الخمسينيات، ووقعت عليها 48 دولة في عقد الستينيات، ثم توالت التصديقات تدريجيا في عقد السبعينيات (20 تصديقًا)،
وفي عقد الثمانينات (20 تصديقًا). وفي بداية عقد التسعينيات، صادقت 26 دولة جديدة على الاتفاقيات، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا السابقة. وعندما نضيف التصديقات السبع منذ عام 2000، فإن تطبيق اتفاقيات جنيف أصبح يطال العالم بأسره، أي ما مجموعه 194 دولة طرف.
وحتى الوقت الراهن، تظل اتفاقيات جنيف الحجر الأساس للقانون الدولي الإنساني المعاصر. فهي تحوي القواعد الأساسية لحماية الأشخاص الذين لا يشاركون في العمليات العدائية مباشر ة أو الذين توقفوا عن المشاركة فيها عندما يقعون في قبضة الطرف الآخر. فهؤلاء الأشخاص، كما أوردنا سابقا، جرحى، ومرضى، وغرقى القوات المسلحة في البحار، وأسرى الحرب، ومدنيين، بمن فيهم المدنيون الذين يعيشون تحت الاحتلال.
إن المفهوم الأساس الذي تنبني عليه اتفاقيات جنيف مفهوم يرتبط باحترام حياة الفرد والحفاظ على كرامته. فلجميع من يعاني ويلات الحرب الحق في المساعدة والرعاية من غير تمييز، في حين تؤكد الاتفاقيات على ضرورة تعزيز دور البعثات الطبية، إذ يتعين حماية واحترام الموظفين الطبيين، والوحدات الطبية، ووسائل نقلهم في جميع الظروف، وهذا شرط لا بد منه لتمكين هذه الوحدات من جمع الجرحى والمرضى وتقديم الرعاية لهم. ثم إن المبادئ التي تنبني عليها هذه القواعد قديمة قدم النزاعات المسلحة نفسها.
ورغم ذلك، فإن السؤال التالي ما فتئ يتردد بين الفينة والأخرى: هل للاتفاقيات أهمية في عالم اليوم، وهل لازالت لها جدوى في الحروب المعاصرة؟
لقد أظهرت نتائج استطلاع للرأي بشأن أهمية القانون الدولي الإنساني أُجري في بلدان تضررت من الحرب، وشمل سلسلة من الأسئلة عما يعتبره المشاركون في الاستطلاع سلوكاً مقبولاً خلال العمليات القتالية، وعن رأيهم بشأن فعالية اتفاقيات جنيف.
ويحمل هذا البحث عنوان " عالمنا: وجهات نظر من الميدان " ، أجرته وكالة إيبسوس في أفغانستان، وكولومبيا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجورجيا، وهايتي، ولبنان، وليبيريا، والفلبين. وأود الإشارة هنا إلى أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر هي التي طلبت بالتحديد إجراء هذا الاستطلاع، ونشرت نتائجه يوم أمس.
لا ينبغي أن يغيب عنا عند القيام بتحليل أدق لمسألة أهمية الاتفاقيات أن الجزء الأكبر من اتفاقيات جنيف ينصب على تنظيم النزاعات المسلحة الدولية، بما فيها حالات الاحتلال العسكري. ومن حسن حظنا أنه في حين أن النزاعات والاحتلال من هذا القبيل لم تعد تندلع بنفس وتيرة الماضي، إلا أنه ينبغي علينا الإقرار بأنها حالات لم تختف بالمرة. وآخر الأمثلة على النزاعات التي تكون فيها الاتفاقيات واجبة التطبيق تطبيقًا كاملاً النزاع في أفغانستان (2001-2002)، وحرب العراق (2003-2004)، والنزاع في جنوب لبنان (2006)، والنزاع بين روسيا وجورجيا (2008).
وما دام ثمة نزاعات دولية وحالات احتلال، وقياسًا على هذه النزاعات وحالات الاحتلال، فإن الاتفاقيات تظل فاعلة ومهمة في الوقت الراهن وفي المستقبل. وعليه، فإن الحفاظ على هذا المكسب الإنساني الذي قبلت به جميع الدول الأطراف في الاتفاقيات مبتغى في غاية الأهمية. ومهما كان نوع التحولات مستقبلاً، فإنه ينبغي أن تنبني على أساس القواعد القائمة حاليا.
لا شك أنه من منظور دراسة الظواهر، يمكن القول إنها تنطبق أيضا على أنواع النزاعات التي تهيمن على الساحة في الوقت الراهن، إذ يتعين علينا التصدي هذه الأيام لنزاعات تتباين كثيرًا، شكلاً ومضمونًا. وهذه النزاعات حروب أهلية داخلية تتدفق أحيانًا إلى دول أخرى. وقد تتصادم فيها قوات الحكومة ومجموعات مسلحة، ومن الوارد أيضا أن تجمع فرقًا مسلحة تقاتل بعضها بعضًا.
كما يمكن لهذه النزاعات أن تشمل دولاً ثالثة أو قوات متعددة الجنسيات تقاتل إلى جنب الحكومة. ويمكن الإشارة في هذا الصدد مثلا إلى الأوضاع في إقليم دارفور في السودان، وكولومبيا، وشرق جمهورية الكونغو الديموقراطية، وكذلك الأوضاع الراهنة في أفغانستان، والعراق، والصومال. وتغطي اتفاقيات جنيف جميع هذه الأوضاع حيث أن المادة المشتركة 3 في اتفاقيات جنيف تتناول أي نزاع مسلح غير دولي، أي أن أي نزاع لا يجمع دولتين يدخل في نطاق هذه المادة. وعلى رغم أن هذه المادة تمثل حكمًا واحدًا فقط، إلا أنها جمعت القواعد الأساسية في بوتقة واحدة:
1- تشترط هذه المادة معاملة جميع من يقع في قبضة العدو معاملة إنسانية، بغض النظر عن تصنيفه القانوني أو السياسي، أو من يسيطر عليه. ونتيجة لذلك، لا يجوز وضع أي أحد أو معاملته خارج المادة المشتركة 3، أو حرمانه من الحماية.
2- تشترط المادة أن يتم جمع الجرحى، والمرضى، وغرقى القوات المسلحة في البحار، ورعايتهم.
3- تمنح المادة اللجنةَ الدولية حق توفير خدماتها إلى أطراف النزاع. وعلى أساس المادة المشتركة 3، تلح اللجنة في طلب زيارة المحرومين من الحرية الذين لهم علاقة بالنزاعات المسلحة غير الدولية، وتتم الاستجابة إلى هذا الطلب عمومًا.
4- وتقر المادة أخيرا بأن تطبيق هذه القواعد لا يؤثر بأي شكل من الأشكال في الوضع القانوني لأطراف النزاع.
ويمكننا من خلال هذا الاستعراض ملاحظة أن المادة المشتركة 3 ليست مادة مثل باقي المواد، بل اتفاقية مصغرة داخل الاتفاقيات. وقد علقت محكمة العدل الدولية على هذه المادة بالقول إنها تعكس " الاعتبارات الأساسية عند الإنسان " . وعلى ضوء شيوع النزاعات غير الدولية، فإن المادة المشتركة 3 لازالت تكتسي أهمية لا تضاهيها أهمية. وبالنظر إلى النزاعات المسلحة غير الدولية إذن، تظل اتفاقيات جنيف في غاية الأهمية حاليا. وبالنظر مرة أخرى إلى قبولها العالمي، فإن المادة المشتركة 3 واجبة التطبيق في أي نزاع مسلح غير دولي قد يندلع في أي مكان من العالم.
لقد جاءت صياغة البروتوكولين الإضافيين في عام 1977 تصديًا للتحولات التي طرأت على الحرب، وخاصة توسع نطاق حرب العصابات، وتنامي معاناة المدنيين في النزاعات المسلحة بسبب تطور تكنولوجيا السلاح نسبيا.
فقد سمح البروتوكولان بإدخال قواعد أساسية ترتبط بطريقة شن الحرب، ومناهجها، ووسائلها، تعزيزًا لحماية المدنيين، وسمحت على الأخص بصياغة مبدأ هام للتمييز بين المدنيين والمقاتلين، وبين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية. كما وسعت نطاق لائحة الضمانات الأساسية الواجب تطبيقها على جميع الأشخاص الذين يقعون تحت سيطرة الطرف الآخر.
وجاء البروتوكولان الإضافيان لعام 1977 أيضا ردًا على انتشار النزاعات المسلحة الداخلية. فالبروتوكول الإضافي الثاني، يُعد في واقع الأمر أول معاهدة خُصصت حصريًا لحماية المدنيين في مثل هذه النزاعات، وبسطت موضوع الحماية التي توفرها المادة المشتركة 3.
وفي حين أنه تم التصديق عالميا على اتفاقيات جنيف لعام 1949، لا يزال بروتوكولاها الإضافيان دون ذلك. فحتى الآن، صادقت 168 دولة على البروتوكول الأول و صادقت 164 دولة على البروتوكول الثاني. وعلى رغم أن البروتوكولين الإضافيين لعام
1977 يُعدان أكثر الصكوك القانونية قبولاً في العالم، إلا أنه لا ينبغي لنا أن نرضى عن هذا الوضع. فالقواعد المنظِّمة لشن الحرب، والضمانات الأساسية الواردة في البروتوكولين الإضافيين لعام 1977 ضرورة حتمية، والاعتراف بهما وقبول تطبيقهما ضروريان اليوم مقارنة بأي وقت مضى.
ولهذا السبب، فإن اللجنة الدولية ترى أنه ينبغي أن تكون مسألة التصديق على البروتوكولين الإضافيين من الأولويات، وندعو بالمناسبة جميع الدول التي لم تصادق بعد، الانضمام إلى هذه الصكوك. فمن شأن التصديق العالمي على اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية، وضع إطار قوي لحماية ضحايا الحرب في كل مكان، ومن دون أي تمييز.
إن الوضع الراهن وضع غير مريح لأنه يجعل من التزامات المعاهدة وبروتوكولاتها صالحة التطبيق في بعض النزاعات، وغير ذلك في نزاعات أخرى. وتلبيةً لطلبات المجتمع الدولي، حاولت اللجنة الدولية تدارك الموقف، وعمدت إلى تحديد قواعد القانون الدولي العرفي الواجب تطبيقها بغض النظر عن سجل التصديقات على قوانين المعاهدة. ومع ذلك، فإنه لا يمكن للقانون العرفي أن يحل محل اليقين القانوني الذي يفرزه التصديق على المعاهدات. وختامًا، أدعو مرة أخرى إلى انضمام عالمي إلى صكوك القانون الدولي الإنساني القائمة، وخاصة البروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف.
الإبادة الجماعية
عملية تتم على عشر مراحل، وفي حين يمكن التنبؤ بهذه المراحل إلا أنها ليست حتمية، إذ يمكن في كل مرحلة اتخاذ تدابير وقائية لإيقاف هذه العملية. ولا تسير العملية المذكورة في خط مستقيم، إذ يمكن أن تحدث مراحلها بشكل متزامن. ومن المنطق طبعًا أن تأتي المراحل اللاحقة بعد المراحل المبكرة، ولكن كل المراحل تظل جارية طيلة فترة العملية.
1. التصنيف:
تنطوي كل الثقافات على فئات تميّز الناس ما بين "نحن" و"هم"، سواء على أساس الإثنية أو العرق أو الدين أو الجنسية: كالألمان واليهود، وقبيلتَي الهوتو والتوتسي. إلا أن احتمالات حدوث الإبادة الجماعية تبلغ أوجها في المجتمعات الثنائية التي تفتقر إلى الفئات المختلطة، على غرار رواندا وبوروندي. لذلك فإن أهم تدبير احترازي يمكن اتخاذه في هذه المرحلة المبكرة هو تطوير مؤسسات عالمية بطابعها ونطاقها تعمل على الترفع عن الانقسامات الإثنية أو العرقية وتشجع بفاعلية على التسامح والتفاهم إلى جانب تعزيز التصنيفات التي ترقى على الانقسامات.
وهذا دورٌ كان يمكن للكنيسة الكاثوليكية أن تؤديه في رواندا لو لم تكن هي نفسها مصابة بالانقسامات الإثنية نفسها التي يعاني منها ذاك البلد. في المقابل، كان من شأن تعزيز اللغة المشتركة في عدة بلدان مثل تنزانيا أن يسهم في تشجيع الهوية الوطنية المترفّعة. من هنا يعتبر البحث هذا عن قواسم مشتركة جوهريًا للوقاية المبكرة من الإبادة الجماعية.
2. الترميز:
ويعني أننا نطلق الأسماء أو الرموز على الفئات التي نصنّفها، فنسمّي الناس بـ"اليهود" أو "الغجر"، أو نميّزهم حسب لونهم أو لباسهم، ونطبّق الرموز كذلك على أفراد الجماعات. والجدير بالذكر أن التصنيف والترميز هما أمران يفعلهما البشر في كل العالم ولا يؤديان بالضرورة إلى الإبادة الجماعية إلا إذا نتج عنهما التجريد من الإنسانية.
وحينما اقترنت الرموز بالكراهية، قد تُفرض على أفراد الجماعات المنبوذة رغمًا عنهم، على غرار النجمة الصفراء التي رُمز بها إلى اليهود في ظل الحكم النازي، والوشاح الأزرق الذي أشير به إلى أهالي المنطقة الشرقية في كمبوديا في ظل حكم الخمير الحمر. ويمكن مكافحة ظاهرة الترميز من خلال وضع القوانين التي تحظر استخدام الرموز النامّة عن الكراهية (الصليب المعقوف)
وكذلك الخطابات المفعمة بالكراهية. وكذلك يمكن منع العلامات الدالة على الانتماء إلى مجموعة معينة على غرار اللباس الخاص بالعصابات أو عادة تخديش الجلد القبائلية. لكن المشكلة هو أن الضوابط القانونية ستبوء بالفشل إذا لم يرافقها تطبيق ثقافي في صفوف الشعب.
فقد كانت كلمتا "هوتو" و"توتسي" مثلاً محظورتين في بوروندي حتى ثمانينيات القرن العشرين، إلا أنهما استُبدلتا بكلمات رمزية.
لذلك فإن رفض الترميز قد يشكل أداةً قوية إذا لقي دعمًا واسع النطاق، تمامًا كما حصل في بلغاريا حيث رفضت الحكومة توفير كمية كافية من الشارات الصفراء ولم يضعها 8% على الأقل من اليهود، الأمر الذي جرّد النجمة الصفراء من مفهومها كرمز نازي لليهود.
3. التمييز:
وهو أن تقوم مجموعة مسيطرة باستخدام القانون والعادات والسلطة السياسية لحرمان مجموعات أخرى من حقوقها، ومن الممكن ألا تُمنح المجموعة الضعيفة كامل حقوقها المدنية أو حتى الجنسية. المجموعة المسيطرة تقاد من قبل إيديولوجية إقصائية تحرم المجموعات أقل قوة من حقوقها. وتشجع الإيديولوجية الاحتكار أو توسيع القوة على يد المجموعة المسيطرة وتشرعن إيذاء الجماعات الأضعف.
دعاة الأيديولوجيات الإقصائية غالبا ما تكون شخصيات جذابة، معربين عن استياء أتباعهم، وجاذبين الدعم من الجماهير. وتشمل الأمثلة عن ذلك قوانين نورمبرغ التي صدرت في ألمانيا النازية في العام 1935 وجرّدت اليهود من جنسيتهم الألمانية ومنعت توظيفهم في الإدارات الحكومية والجامعات. ومثال آخر هو حرمان أقلية الروهينغيا المسلمة في بورما من الجنسية.
في هذا الإطار، تعني الوقاية من التمييز تمكين كافة الأفرقاء في المجتمع من المشاركة الكاملة في الحياة السياسية ومن التمتع بحقوق الجنسية. ولذلك يجب حظر التمييز على أساس الجنسية أو الإثنية أو العرق أو الدين في القوانين، ويجب أن يكون للأفراد الحق في مقاضاة الدولة والمؤسسات والأفراد الآخرين عند انتهاك حقوقهم.
4. التجريد من الإنسانية:
وهو أن تنفي مجموعة معينة صفة الإنسانية عن مجموعة أخرى، بحيث يُسوّى أفراد هذه الأخيرة بالحيوانات أو الهوام أو الحشرات أو الأمراض، كما يؤدي تجريد البشر من صفتهم الإنسانية إلى تخطي الشعور الإنساني الطبيعي بالنفور من القتل. في هذه المرحلة، تستخدم المنشورات الدعائية والإذاعية التي تحث على الكراهية من أجل الحط من قدر المجموعة المستضعفة.
ويتم تدريس مجموعة الأغلبية ينظرون بأن المجموعة الأخرى أقل من الإنسان، بل وغريب عن مجتمعهم. فضلا عن ذلك يتم تلقينهم باعتقاد بأن "نحن أفضل بدونهم." يمكن للمجموعة العاجزة أن تصبح مسلوب الشخصية بحيث يتم إعطاءهم أرقام بدلا من الأسماء، كما كان اليهود في معسكرات الموت وتم مساواتهم مع القذارة، والنجاسة، والفجور. خطاب الكراهية تملأ الدعاية للإذاعة الرسمية والصحف والخطب.
ولا بد من الإشارة في إطار مكافحة ظاهرة التجريد من صفة الإنسانية إلى أنه لا يجوز الخلط بين التحريض على الإبادة الجماعية وحرية الرأي والتعبير العلني. فالمجتمعات المعرضة للإبادات الجماعية تفتقر إلى الحماية الدستورية اللازمة لإبطال قوة الخطابات، ولا بد من التعامل معها بشكل مختلف عن المجتمعات الديمقراطية. ويجدر كذلك بالقادة المحليين والدوليين أن يدينوا استخدام خطابات البغض والكره وأن يجعلوها أمرًا غير مقبول من الناحية الثقافية.
أما القادة الذين يحرضون على الإبادة الجماعية فيجب منعهم من السفر الدولي وتجميد أموالهم المودعة في المصارف الأجنبية. ولا بد أيضًا من إقفال محطات الراديو وحظر الدعاية التي تحرض على الكره، بالإضافة إلى المعاقبة على جرائم وفظائع الكره على الفور.
5. التنظيم:
دائمًا ما تكون الإبادة الجماعية منظّمة، بالعادة من قبل الدولة، وتستخدم الميليشيات لارتكابها في غالبية الأحيان من أجل التمكن من نفي مسؤولية الدولة عنها (ميليشيا الجنجويد في دارفور). وفي بعض الأحيان، يتم التنظيم بشكل غير رسمي (العصابات الهندوسية التي يتزعمها مقاتلون محليون من "جمعية المتطوع الوطني"/راشتريا سوايام سيفاك سانغ RSS) أو لامركزي (التنظيمات الإرهابية)، وغالبًا ما يتم تدريب وتسليح وحدات عسكرية خاصة من الجيش أو الميليشيات، كما توضع الخطط لارتكاب عمليات القتل والإبادة الجماعية. يتم تستر أعمال الإبادة الجماعية كمكافحة التمرد إذا كان هناك صراع مستمر بالسلاح أو حرب أهلية. بدأ عصر "الحرب الشاملة" في الحرب العالمية الثانية.
لم تفرق قنابل حارقة المدنيين من غير المقاتلين. الحروب الأهلية التي اندلعت بعد نهاية الحرب أيضا لا تفرق المدنيين من غير المقاتلين إلا أنها تسبب جرائم حرب واسعة النطاق. فأصبحت عمليات الاغتصاب الجماعي للنساء سمة من سمات كل جرائم الإبادة الجماعية الحديثة. تدفق الأسلحة إلى الدول والميليشيات (غالبا ما تنتهك حظر توريد الأسلحة الأممية) تسهل أعمال الإبادة الجماعية.
وتنظم الدول شرطة سرية للتجسس على الناس يشتبه في المعارضة للقادة السياسيين واعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم. يتم تلقين الدوافع لاستهداف مجموعة من خلال وسائل الإعلام وتدريب خاص للميليشيات القتل ووحدات خاصة من الجيش.
فإنّ التصدي لهذه المرحلة يتطلب حظر العضوية في الميليشيات المماثلة بموجب القانون، وحرمان قياداتها من الحصول على تأشيرات الدخول إلى الدول الأجنبية. فضلاً عن ذلك يجب على الأمم المتحدة أن تفرض حظر تسلّح على حكومات ومواطني الدول المتورطة في المجازر الجماعية وأن تشكّل لجانًا تعنى بالتحقيق في الانتهاكات كما حدث في المرحلة التي تلت الإبادة الجماعية في رواندا.
6. التباعد:
يعمد المتطرفون إلى إبعاد الجماعات عن بعضها البعض، بحيث تقوم الجماعات المحرضة على الكره ببث الدعايات التي تحث على التباعد في ما بينها، حتى أن القوانين قد تمنع الزواج أو التفاعل الاجتماعي بين الجماعات. كما يستهدف الإرهاب المتطرف المعتدلين ويتعمّد ترهيب المتوسطين وإسكاتهم. فالمعتدلون من جماعة المعتدين أنفسهم هم أكثر الأشخاص قدرة على إيقاف الإبادة الجماعية ولذلك فإنهم أول من يتعرض للاعتقال والقتل. ثم يتعرض القادة في الفئات المستهدفة للقبض عليهم وقتلهم. تسن المجموعة المسيطرة قوانين أو مراسيم الطوارئ التي تمنح لهم السلطة الكاملة على الفئة المستهدفة وتتآكل القوانين الحقوق المدنية الأساسية والحريات. فيتم نزع سلاح الجماعات المستهدفة لجعلها غير قادرة على الدفاع عن النفس، وضمان أن المجموعة المهيمنة تتمتع بالسيطرة الكاملة.
وهنا قد تتمثل الوقاية بتأمين الحماية الأمنية للقادة المعتدلين أو توفير المساعدة لمنظمات حقوق الإنسان. هذا ويمكن مصادرة أموال المتطرفين وحرمانهم من تأشيرات السفر إلى الخارج. ولكن لا بد أيضًا من فرض عقوبات دولية من أجل التصدي للانقلابات التي ينفذها المتطرفون.
7. التحضير:
ويعني أن تخطط قيادات الجماعات الوطنية أو المعتدية لبلورة "الحل النهائي" لـ"مسألة" اليهود أو الأرمن أو التوتسي أو غيرهم من المجموعات المستهدفة. وهي تعمد في غالب الأحيان إلى تستير نواياها خلف عبارات ملطّفة، كأن تصف أهدافها بـ"التطهير العرقي" أو "التطهير" أو "مكافحة الإرهاب." فتشكّل الجيوش وتشتري الأسلحة وتدرب جنودها وميليشياتها وتغرس في أذهان الشعب الخوف من الجماعة الضحية. وغالبًا ما يتحجج القادة بالادعاء القائل "إذا لم نقتلهم قتلونا،" مموها الإبادة الجماعية بأنها دفاع عن النفس.
هناك زيادة مفاجئة في الخطابة الملهبة للمشاعر الكراهية والدعاية بهدف خلق الخوف من المجموعة الأخرى. قد تؤدي العمليات السياسية مثل اتفاقات السلام التي تهدد الهيمنة الكلية للمجموعة ذات ميول للإبادة الجماعية أو الانتخابات المقبلة التي قد يكلفهم قبضتهم على السلطة الكلية إلى إبادة جماعية. على هذا الأساس قد تتضمن تدابير الوقاية من مرحلة التحضير فرض حظر تسلّح وتشكيل لجان لتطبيق هذا الحظر. ولكن من الضروري أن تشمل هذه التدابير المحاكمة على التحريض والتآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية، وهما جريمتان تنص عليهما المادة الثالثة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
8. الاضطهاد:
في هذه المرحلة يتم تحديد الضحايا المستهدفين وفصلهم على أساس هويتهم الإثنية أو الدينية، وتوضع لوائح القتل. في حالات الإبادة الجماعية التي ترتكب بدعم من الدولة، قد يرغَم أفراد المجموعة المستهدفة على وضع رموز تعرّف عنهم. وفي غالب الأحيان تسلب منهم ملكياتهم، حتى أنهم قد يفصلون أحيانًا عن باقي السكان في أحياء خاصة بالأقليات أو يرحَّلون إلى معسكرات اعتقال أو يحتجزون في مناطق ضربتها المجاعة حيث يتم تجويعهم. فيتم تحريمهم عمدا من الموارد مثل المياه أو الطعام من أجل تدميرهم شيئا فشيئا ويتم تنفيذ برامج لمنع الإنجاب من خلال التعقيم القسري أو الإجهاض. تؤخذ الأطفال عن والديهم قسرا.
تصبح حقوق الإنسان الأساسية للمجموعة الضحية معذبا بشكل منتظم من خلال عمليات القتل خارج نطاق القضاء، والتعذيب والتهجير القسري. وهنا تبدأ المجازر الإبادية، وهي تعتبر أعمال إبادة جماعية لأنها تقضي عمدًا على قسم من المجموعة المستهدفة. يراقب الجناة ما إذا كانت هذه المذابح تؤدي إلى أي رد فعل دولي. إن لم يكن، أنهم يدركون أن المجتمع الدولي سيكون مرة أخرى من المارة وتسمح بإبادة جماعية أخرى.
في هذه المرحلة، يتعين إعلان حالة الطوارئ جراء الإبادة الجماعية. وإذا أمكن تعبئة الإرادة السياسية للقوى العظمى أو الحلفاء الإقليميين أو مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يجب التحضير لتدخل دولي مسلح أو تقديم مساعدة مكثفة للمجموعة المستهدفة حتى تستعد للدفاع عن نفسها. وكذلك يجب على الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الخاصة أن تنظم المساعدات الإنسانية لموجة اللاجئين التي ستترتب حتمًا عن الوضع.
9. الإفناء:
هنا يبدأ الإفناء ويتحول سريعًا إلى قتل جماعي يعرف قانونيًا باسم "الإبادة الجماعية". بالنسبة للقتلى، تسمّى هذه العملية "إفناء" لأنهم لا يعتبرون ضحاياهم كائنات بشرية تمامًا. وحين يجري الإفناء بدعم من الدولة، غالبًا ما تتعاون القوات المسلحة مع الميليشيات لتنفيذ أعمال القتل. وفي بعض الأحيان تسفر الإبادة الجماعية عن أعمال قتل انتقامية بين الجماعات، فتخلق بذلك دوامة انحدارية من الإبادات الثنائية (كما في بوروندي). تظهر أعمال الإبادة الجماعية كيف مدى تجريد إنسانية الضحايا.
يتم تمزيق أشلاء الجثث؛ ويُستخدم الاغتصاب كأداة حرب من أجل التغيير الوراثي والقضاء على المجموعة الأخرى وكذلك تدمير الممتلكات الثقافية والدينية للقضاء على وجود مجموعة من التاريخ. ويتم قتل كل الرجال في سن القتال في بعض عمليات الإبادة الجماعية. يتعرض جميع النساء والفتيات للاغتصاب. في عمليات الإبادة الجماعية الشاملة يتم إبادة جميع أعضاء المجموعة المستهدفة.
في هذه المرحلة، لا يمكن إيقاف الإبادة الجماعية إلا بتدخل مسلّح يكون سريعًا وطاغيًا. وكذلك ينبغي تأمين مناطق آمنة فعلية أو ممرات فرار للاجئين تحت غطاء مكثف من الحماية الدولية المسلحة (مع الإشارة إلى أن وجود منطقة "آمنة" تفتقر إلى الأمان أسوأ من غيابها). كذلك يجب على مجلس الأمن تفويض لواء القوات الاحتياطية العالي الاستعداد التابع للأمم المتحدة أو قوة الرد السريع التابعة للاتحاد الأوروبي أو القوات الإقليمية بالتحرك واتخاذ التدابير اللازمة إذا كان نطاق الإبادة الجماعية صغيرًا. أما حالات التدخل الأكبر،
فيجب أن تتولاها قوة متعددة الأطراف ومفوضة من الأمم المتحدة، في حين يتعين على التحالفات الإقليمية أن تتدخل إذا ما كانت الأمم المتحدة عاجزة عن التحرك. منذ 2005، تعلو مسؤولية تأمين الحماية التي تقع على عاتق الأطراف الدولية فوق المصالح الضيقة للدول الفردية. وإذا أبت الدول القوية أن تقدم الجيوش اللازمة للتدخل المباشر، عليها أن تؤمّن النقل الجوي والعتاد والإمكانيات المالية اللازمة لتدخل الدول الإقليمية.
10. الإنكار:
ويشكل المرحلة الأخيرة التي تدوم طيلة مدة الإبادة الجماعية وتأتي دائمًا في أعقابها، لا بل يعد من أكثر المؤشرات تأكيدًا على حدوث المزيد من مجازر الإبادة. ويعمد مرتكبو الإبادة الجماعية إلى نبش القبور الجماعية وإحراق الجثث محاولين إخفاء الأدلة وترهيب الشهود. وينكرون أنهم ارتكبوا أي جرائم ويلقون غالبًا اللوم في ما حصل على الضحايا. كما أنهم يتصدون للتحقيقات التي يتم إجراؤها في الجرائم ويستمرون في الحكم إلى حين الإطاحة بهم بالقوة فيهربون حينذاك إلى المنفى. وهناك يعيشون متمتعين بالحصانة على غرار بول بوت أو عيدي أمين،
إلا أذا تم القبض عليهم وإنشاء محكمة لمحاكمتهم. إنّ الرد على