الدكتور سامح خشبة يكتب: حكاوي اللي هاوي


تربَّينا وكبرنا ونحن نعرف أن الخبر والمعلومة زمان كانا يأتيان من مصدرين أساسيين، إما من الجريدة التي تحمل الأخبار مع نسمات الصباح، ومن امتلكها فكأنما امتلك العالم بأسره، أو من الراديو الذي ينساب صوته بين الجدران في هدوء ودفء، ليحمل إلينا كل جديد. لم يكن هناك صخب، ولم يكن هناك تدفق للمعلومات من كل اتجاه كما هو الحال اليوم.
كانت الأوقات تحلو بالجلوس على القهاوي، حيث لكل مقهى رواده وهُوَاته، ولكل طاولةٍ حكاويها. من شمال الوطن إلى جنوبه، كان هناك من يجلس ليقرأ الجريدة، ومن يستمع إلى الراديو، ومن يشارك في النقاشات الممتدة بين كوبين من الشاي المغلي بمذاقه المصري الأصيل، ذاك المذاق الذي غاب كثيرًا. كانت القهوة عالمًا موازيًا، يجتمع فيه الناس على اختلافهم، وكان هؤلاء هم "هواة القهاوي" الذين يعرفون جيدًا متى يتحدثون ومتى يستمعون.
وهنا جاء الفكر العبقري للإعلامية سامية الأتربي، التي أدركت أن هؤلاء ليسوا مجرد عابرين، بل هم جمهور له مذاقه الخاص، فقررت أن تأخذ الكاميرا إليهم، أن تدخل عالمهم، أن تجعل من مقاهيهم استوديو مفتوحًا لحكايات الناس في شهر رمضان مطلع التسعينيات، فجاء برنامجها الشهير "حكاوي القهاوي"، الذي ظل محفورًا في ذاكرة مواليد الثمانينيات وما قبلهم، لأنه كان ببساطة يشبههم، يعكس طبيعتهم، يتحدث بلغتهم، وينقل حكاياتهم دون رتوش.
وقتها نجح ماسبيرو ونجح البرنامج نجاحاً حقيقيًا لأنه كان صادقًا، كان قريبًا من الناس، لم يكن مصنوعًا، بل كان مرآةً لما يدور في أذهانهم. واليوم، تغيَّرت القهاوي، وتغيَّر روادها، ولم تعد الجريدة والراديو هما المصدر الوحيد للمعلومة، بل أصبحت هناك "قهاوي" من نوع جديد، قهاوي افتراضية يجلس عليها الملايين، لا تفصل بينهم طاولة، ولا يجمعهم مقهى حقيقي، لكنهم يتبادلون الحكايات، يتشاركون الآراء، يختلفون ويتفقون، كما كان يحدث في الماضي، لكن الآن على شاشة صغيرة في أيديهم، وعلى منصات أطلقوا عليها اسم "السوشيال ميديا".
وكما احتاج جيل الأمس إلى "حكاوي القهاوي"، أرى أننا اليوم بحاجة إلى برنامج يعيد للناس حواراتهم الحقيقية، ينقل نبض الشارع من جديد، يلتقط القصص التي تتوه وسط زحام الأخبار المتسارعة ، ويعيد لماسبيرو روحه التي تجعله قريبًا من الناس، وليس مجرد عودة الجسد.
فهل نرى قريبًا برنامجًا يعيد إلينا الدفءَ الذي افتقدناه؟ وهل يعود ماسبيرو ليلتقي بهواة "القهاوي الافتراضية"، حيث يجلسون، كما فعلت سامية الأتربي يومًا؟
أعتقد أن الحكايات لم تنتهِ، لكنها فقط تحتاج إلى من يسمعها ويعيد روايتها من جديد. ولأن رواد وهواة القهاوي الافتراضية يزدادون يومًا بعد يوم، فنحن بحاجة إلى من يسمعهم ويحاورهم في برنامج "حكاوي اللي هاوي"