النص الكامل لكلمة رئيس ”الدستورية” بالجلسة الافتتاحية لاجتماع المحاكم الدستورية والعليا الإفريقية
خط أحمرقال المستشار بولس فهمي، رئيس المحكمة الدستورية العليا، إن الاجتماعات السابقة لرؤساء المحاكم الدستورية والعليا والمجالس الدستورية الإفريقية أثمرت شراكة قائمة بين المحاكم والمجالس الإفريقية المجتمعة، كان في القلب منها المنصة الرقمية للتواصل القضائي هذه هي المحاور الستة التي تبنتها تلك الأجندة.
جاء ذلك خلال بدء أولى جلسات اجتماع القاهرة الثامن رفيع المستوى لرؤساء المحاكم الدستورية والعليا والمجالس الدستورية الإفريقية، الذي ينعقد على مدار يومين متتاليين بالقاهرة، بمشاركة ممثلين عن المحاكم العليا والمجالس الدستورية من 35 دولة، إلى جانب 5 منظمات دولية.
حضر الجلسة الافتتاحية كل من المستشار الدكتور حنفي جبالي رئيس مجلس النواب والمستشار عبد الوهاب عبد الرازق رئيس مجلس الشيوخ والمستشار بولس فهمي رئيس المحكمة الدستورية العليا والمستشار الدكتور محمد عماد النجار نائب رئيس المحكمة أمين عام المؤتمر، بجانب حضور العديد من الوزراء ورؤساء المحاكم الدستورية والعليا والمجالس الدستوريه الإفريقية ووفود قضائية دولية رفيعة المستوى وأيضا بحضور وفود من رؤساء الجهات والهيئات القضائية المصرية.
واستهل المستشار بولس فهمي، رئيس المحكمة الدستورية العليا، كلمته بالترحيب بالسادة الحضور والتوجه بالشكر إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية وجاءت نص الكلمة كالآتي:
"يَطيبُ لي، أصالةً عن زملائي نوابِ رئيسِ المحكمةِ، وأعضاءِ هيئةِ مُفوضيها، أن أتوجهَ بالشكرِ والتقديرِ إلى فخامةِ السيدِ الرئيسِ عبدِ الفتاحِ السيسي رئيسِ الجمهوريةِ، على ما يُقدمُهُ مِن دعمٍ غيرِ محدودٍ، ليكفلَ نجاحَ اجتماعِ القاهرةِ رفيعِ المستوى لرؤساءِ المحاكمِ الدستوريةِ والعليا والمجالسِ الدستوريةِ الإفريقيةِ، عبرَ دوراتهِ الممتدةِ، وعلى نحوٍ يؤكدُ وعيَ الدولةِ المصريةِ العميقِ بعِظمِ الدورِ المنوطِ بمؤسسةِ القضاءِ، وأهميةِ دعمِ استقلالِه.
فلقد شَرُفَت جمهوريةُ مصرَ العربيةُ ومحكمتُها الدستوريةُ العليا، بحضورِ هذا الجمعِ القضائيِ الإفريقيِ رفيعِ المستوى، فعالياتِ اجتماعِنا الذي ينعِقدُ في دورتِه الثامنةِ، ضامًّا نُخبًا مِن أَجلِّ قضاةِ قارتِنا الغراءِ، رفيعي الشأنِ، صائني الدساتير، سدنِة العدلِ، أمناءِ سيادةِ القانونِ، حراسِ الحقوقِ والحرياتِ، مغيثي كلِّ مظلومٍ، وناصري كلِّ مضطهَدٍ ومقهورٍ.
وإنهُ لا يَعزُبُ عن نظرٍ، أن حرصَكم على المشاركةِ في هذا الاجتماعِ، إنما يبينُ، في إفصاحٍ جهيرٍ، قدرَ المكانةِ التي يبلغُها لدى هيئاتِكم القضائيةِ، بما يعكسُ ثقةً غاليةً، في صدقِ توجهاتِها، صَوْبَ دعمِ وتنميةِ التعاونِ الإفريقيِ المشتركِ، في المجالاتِ القضائيةِ، إعلاءً لأهميةِ الحوارِ بينَ القضاةِ الأفارقةِ بشأنِ تحدياتٍ تواجهُ عملَهم، وذلكَ جميعُه في إطارٍ من سيادةِ القانونِ وإقامةِ العدلِ، وعلى أسسٍ رفيعةٍ من الشفافيةِ التي تُفضي إلى بلوغِ غايةِ الأمرِ مِن تعاونِنا البنّاءِ، الذي يسعى إليهِ هذا المحفلُ العلميُّ رفيعُ المستوى.
السادةُ الحضوُر الأجلاُء؛ لقد ضمَّنا هذا الاجتماعُ في دوراتِه السبعِ الماضيةِ، ونُصبَ أعينِنا أجندةُ الاتحادِ الإفريقيِ، بتطلعاتِها نحوَ التكاملِ في الرؤى السياسيةِ والنهضويةِ، بُغيةَ بلوغِ مدارجَ عَلِيّةٍ في الحكمِ الرشيدِ، واحترامِ حقوقِ الإنسانِ، مِن خلالِ توسيدِ مبادئِ العدالةِ وسيادةِ القانونِ، المعتبرِة إطارًا ملزمًا للنهوضِ المجتمعيِ، بما يحققُ السلامَ العامَّ لقارتِنا، ويكفل مستوياتٍ متقدمةٍ مِنَ الأمانِ الاجتماعيِ والسياسيِ والاقتصادي، متمسكينَ بهويتِنا الثقافيةِ وخصوصياتِ تراثِنا المشتركِ بكلِ قيَمِهِ وأخلاقِه .
ولَعَلّي أُذَكرُ نفسي وإيَّاكُم، بأننا ناقشنا في النُسخِ الماضيةِ مِن هذا الاجتماعِ، عددًا من الموضوعاتِ، التي طوَّفت حولَ مجالاتٍ مختلفةٍ، منها ما تعلقَ بالأمنِ والِسّلْمِ، وما اتصلَ بالبيئةِ والتنميةِ المستدامةِ، ومفهومِ العدالةِ بتطبيقاتِه في مجالاتٍ مختلفة، وذلكَ كلُّه في إطارِ تعزيزِ الهُوياتِ الثقافيةِ لدولنِا، وتحقيقِ العدالةِ الاجتماعيةِ التي تستهدفُها أجندةُ الاتحادِ الإفريقي.
ولقدْ أثمرتْ هذهِ الاجتماعاتُ شراكةً قائمةً بينَ المحاكمِ والمجالسِ الأفريقيةِ المجتمعةِ، كان في القلبِ منها المنصةُ الرقميةُ للتواصلِ القضائيِ الإفريقيِ التي تتيحُ نشرَ كافةِ الأحكامِ الدستوريةِ لتبادلِ الرؤى حولَ التحدياتِ التي تُواجهُها محاكمُنا، كما كان إنشاءُ مركزِ البحوثِ والدراساتِ الدستوريةِ للدولِ الإفريقيةِ بمقرِ المحكمةِ الدستوريةِ العليا، تطويرًا نوعيًّا في دعمِ الارتباطِ بين هيئاتِ القضاءِ الدستورِيّ الأفريقيِ في مجالاتِ البحثِ والتدريبِ وصقلِ المهاراتِ القضائيةِ.
وفي الدورِ الحالي لانعقادِ هذا الاجتماعِ، تَبدَّى لنا، توالي الظروفِ الاستثنائيةِ على دولِنا، وتنوعُ صورِ المخاطرِ التي تمثلُها تلكَ الظروفُ غيرُ العاديةِ، بعضُها بيئيٌّ أفرزَتْهُ اعتداءاتٌ جسيمةٌ على موارد الطبيعةِ، إلى صراعاتٍ جيوسياسيٍة حادةٍ، إلى مصارعِ صحيةٍ معضلةٍ، تزاحمت كلُّها في فتراتٍ زمنيةٍ وجيزةٍ، فكان لزامًا علينا مقاربةُ هذهِ الأوضاعِ الاستثنائيةِ المفروضةِ، مِن زاويةٍ دستوريةٍ، مُتلَمسينَ الإطارَ الدستوريَّ والقانونيَّ الذي يُمكنُ أن يستوعبَ تعاظمَ هذهِ التحدياتِ، وَمِن ثَمَّ كاَن اقتراحُ أطروحةِ "الحمايةِ الدستوريةِ للحقوقِ والحرياتِ في الظروفِ الاستثنائيةِ"، محوراً – وحيدًا- يستغرقُ المناقشةَ العلميةَ لهذا الاجتماعِ، على خلافِ نهجِنا في الدوراتِ السبعِ السابقةِ، وما ذلك إلا لِجَلَلِ هذا الأمرِ، الذي مَا فَتِئَتْ وَطأتُهُ مُتشابكةً بغلظةٍ، مع واقعِنا المُعاشِ.
ولَعلّه من نافلةِ القولِ بأنَّ تجربتَنا المصريةَ، تنضحُ عبَر مراحلَ تاريخيةٍ، ناهَزَتْ قرنًا مِنَ الزمانِ، بخبراتٍ قانونيةٍ وقضائيةٍ عميقةٍ، في سياقِ حفظِ أُطُرِ الشَّرْعِيَّةِ الدستوريةِ خلالَ الظروفٍ الاستثنائيةٍ التي تَبَدَّتْ في حروبٍ عالميةٍ وأخرى إقليميةٍ أحاطت بمصرَ، تاركةً وراءها ظواهرَ اجتماعيةً واقتصاديةً غيرَ مألوفةٍ، كما تمثلت في اعتداءاتٍ عسكريةٍ غاشمةٍ، استهدفَت تقويضَ سيادتِها على أرضِها، إلى أنْ توالَت موجاتُ إرهابٍ متنوعةٍ تَغيَّت النَيْلَ مِن وحدةِ شعبِنا وتماسكِه، حتى أدركتْنا مؤخرًا جوائحُ صِحيةٌ فتاكةٌ، وهذه جميعُها ظروفٌ استثنائيةٌ، تكدَّست آثارُها، في فتراتٍ زمنيةٍ ضيقةٍ نسبيًّا ، وشَكَّلتْ، بهذهِ المثابةِ، تحديًّا حقيقيًّا لمفهومِ سيادةِ القانونِ في الظروفِ الاستثنائيةِ.
وإنه لَمنَ الحقِّ التذكيرُ بأنَّ واقعَنا القانونيَّ ما فَتِئَ أنْ وَضَعَ أُطُرًا مِن القيمِ الدستوريةِ الضابطةِ لتشريعاتِ الضرورةِ وتدابيرِ الاستثناءِ، مُكللًا بكلِ ما انطَوت عليهِ الوثائقُ الدستوريةُ المتلاحقةُ من ضمانٍ لحقوقِ الأفرادِ وحرياتِهم، وفي ذلكَ تآزَرَتْ جهاتُ القضاءِ العاديِ، والإداريِ، والدستوريِ، كلٌّ في مجالِه، تفحصُ وتدققُ في التدابيرِ المتخذةِ والإجراءاتِ المتبعة، غيرَ متهيبةٍ مِن إعلاءِ حقوقِ وحرياتِ الأفرادِ، عندَ مواجهةِ أقلِ زللٍ يمكنُ أن يُنتجُه الإجراءُ أو يُرتبُهُ التدبيرُ المشوبُ باجتراءٍ على حقٍ أو حريةٍ، وذلك على نحوِ ما تكشفُ عنهُ مدوناتُ الأحكامِ القضائيةِ المصريةِ.
وإنه لَمِنَ الصدقِ التأكيدُ على أنَّ عددًا من الأحكامِ المُؤَثرِة التي أصدرَتْها المحكمةُ الدستوريةُ العليا، في مقامِ حمايةِ حرياتِ الأفرادِ الأساسيةِ وحقوقهِمِ اللصيقةِ بشخوصهمِ، ما استُولِدَ إلا في ظلِّ إعلانِ حالةِ الطوارئِ، الأمرُ الذي يتعينُ معَهُ الإشادةُ بتوجهاتِ الدولةِ، التي تَحَّملتْ في غيرِ مرةٍ، تقييدَ سلطاتِها لصالحِ حمايةِ حقوقِ وحرياتِ مواطنيها، وهيَ إشادةٌ تمتدُ إلى المجتمعِ الذي تَفَهَّمَ بوطنيةٍ مشهودةٍ الضروراتِ التي ألجأتْ الدولةَ إلى فرضِ إجراءاتٍ استثنائيةٍ، حمايةً للمصلحةِ الفُضلى للجماعةِ الوطنيةِ.
ولا ريبَ أنَّ هذا الجهدَ، وذاكَ التطورَ الدؤوبَ، المدعومَ دومًا بإرثٍ قضائيٍّ رصينٍ، ينحو إلى حمايةِ الحقوقِ والحرياتِ، وَجَدَ تَجليِهِ الأرفعَ في الوثيقةِ الدستوريةِ الأخيرةِ المعمولِ بها في مصرَ منذُ عام 2014، إذ فرضَتْ نصوصُ الدستورُ سِياجًا مُحكمًا من الإجراءاتِ الشكليةِ، والضوابطِ الموضوعيةِ، التي حَدَّتْ كثيرًا مِن تبعاتِ إعلانِ حالةِ الطوارئِ، بتحديدِ مُدَدِ فرضِها، وبيانِ التدابيرِ المتاحةِ خلال فترةِ نفاذِها، فباتت بذلكَ حالةُ الطوارئِ عصيةً على الاستمرارِ لفتراتٍ ممتدةٍ، مما أثمرَ إنهاءَها، لتغدو بذلكَ الشرعيةُ القانونيةُ التي تحكمُ الظروفَ العاديةَ، مَلاذًا آمنًا للمواطنين.
السادةُ الحضورُ الأجِلاءُ:
في سياقِ ما تقدمَ، فإني أستميحُكم أن أتركَ لضيوفِنا المُكْرَمينَ وزملائي أعضاءِ المحكمةِ الدستوريةِ العليا المصريةِ، طرحَ رُؤاهم المُحْكمةِ لواقعِ الرقابةِ القضائيةِ على التشريعاتِ التي أُقِرَّت لمواجهةِ الظروفِ الاستثنائيةِ، والكيفيةِ التي تَلمَّست بها الجهاتُ القضائيةُ في مختلفِ الأنظمةِ القانونيةِ حمايةَ حقوقِ الأفرادِ وحرياتِهم وذلكَ من خلالِ الأبحاثِ المعروضةِ على مدارِ الجلساتِ الثلاثِ القادمةِ بمشيئةِ اللهِ.
وختامًا، فإني أُكررُ شكري وترحابي بحضورِكم الكريمِ، مثمناً مشاركاتِكم، التي أُوقنُ بالغَ أهميتِها، في تعزيزِ نفاسةِ هذا الاجتماعِ، وتعظيمِ آثارهِ العلميةِ، بما لذلكَ مِنَ انعكاسٍ أكيدٍ على نهضةِ وتقدمِ شعوبِ إفريقيا الفتيةِ.