خط أحمر
الأربعاء، 8 يناير 2025 04:00 مـ
خط أحمر

صوت ينور بالحقيقة

رئيس مجلس الإدارة محمد موسىنائب رئيس مجلس الإدرةأميرة عبيد

رئيس مجلس الإدارة محمد موسىنائب رئيس مجلس الإدرةأميرة عبيد

مقالات

الدكتورة دينا السايح تكتب: القدس قضية تائهة بين العقيدة والسياسة

خط أحمر

في مقال سابق نُشر عام 2016، كنت قد تناولت قضايا الصراع في المنطقة، مشيرًا إلى أن تحليل الصراعات الحالية باستخدام منهجية دقيقة قد يساعدنا في فك كثير من التعقيدات، مما يتيح تجنب العديد من الصدامات الداخلية التي يستغلها أصحاب الأجندات العالمية ضد الدول. هذه الصدامات، للأسف، تستهدف شعوبنا مستغلةً عاطفتها المتأججة، وهو ما تسبب في فقداننا قضية من أهم قضايا المنطقة. وحتى إن لم تُفقد القضية بالكامل، فإن عقودًا من الركود والتراجع أوصلتنا إلى أسوأ النتائج الممكنة.

المقال:
تعلو اليوم، كما بالأمس، أصوات الشعوب العربية دفاعًا عن القضية الفلسطينية، مرددة هتافات تؤكد على قدسية القضية، وتستحضر الشعارات الدينية المناهضة للاحتلال، مشددةً على أهمية الأرض الفلسطينية للإسلام وحق المسلمين فيها. يُطرح الانتصار لهذه القضية كرمز لرفعة الإسلام والعرب، بهدف استعادة أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم تحقق القضية الفلسطينية أي تقدم يُذكر طوال العقود الماضية، رغم أن المسلمين يزيد عددهم عن أربعة مليارات نسمة حول العالم؟

هل القضية الفلسطينية، بما آلت إليه اليوم، والقدس المحتلة، هي قضية عقائدية بالفعل، أم أنها في جوهرها قضية سياسية؟

إن كانت النظرة العقائدية للقضية لم تسفر عن نتائج إيجابية حتى الآن، فمن المستفيد من هذا التوجيه؟ وما الأسباب الكامنة وراء دفعها في هذا الاتجاه؟

إذا تأملنا التاريخ، نجد أن النزاعات المرتبطة بالعقيدة أو الدم غالبًا ما تكون مستعصية على الحلول الجذرية، وتظل مفتوحة إلى الأبد.

ولعل الكيان الصهيوني قد اختار عمدًا توجيه صراعه مع العرب نحو الطابع العقائدي، متجاهلًا القوانين والأعراف الدولية التي تنظم العلاقة بين الشعوب، والتي تشرف عليها مؤسسات عالمية معترف بها مثل الأمم المتحدة، مجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية.

للأسف، سارت الإدارات العربية المتعاقبة على نفس النهج، دون أن تتوقف لتسأل: إذا كان هذا التوجه صحيحًا، فلماذا لم يُنهِ الصراع؟

خلف هذه الإدارات، تسير الشعوب مدفوعة بمشاعر تغلب على التفكير المنطقي والواعي، سواء نتيجة لجهل بالحقائق، أو لمصالح خاصة، أو حتى بدافع عاطفي بحت.

بالعودة إلى التاريخ، نجد أن أول من سكن الأراضي الفلسطينية هم العموريون، ثم اليبوسيون. وفي عام 3500 ق.م، جاء الكنعانيون من شبه الجزيرة العربية واستوطنوا الأرض لأكثر من 1500 عام، حتى سُمِّيت الأرض باسمهم "أرض كنعان" الكنعانيون أسسوا حضارة قوية، وأقاموا مدن القدس، نابلس، أريحا، وبيسان.

بعد ذلك، هاجر العبرانيون مع النبي إبراهيم عليه السلام إلى أرض كنعان، حيث أقاموا لفترة قبل أن يهاجروا مجددًا إلى مصر بسبب المجاعة، وهناك تعرضوا للاستعباد.

في عام 1300 ق.م، نزحت قبيلة "باليست" من جزر بحر إيجة، بما في ذلك جزيرة كريت الحالية، إلى أرض كنعان. استقروا هناك واختلطوا بالسكان الأصليين، حتى ذابوا فيهم وتبنوا لغتهم وعاداتهم.

أما في التاريخ المصري القديم، فتشير المصادر إلى أن غزو المصريين لأرض كنعان وقع في عصر الدولة الحديثة، تحديدًا خلال القرن الرابع عشر ق.م، بقيادة الملك "وني" ثم الملك تحتمس الثالث، الذي بسط سيطرته على كامل أراضي الشام بعد انتصاره في معركة "مجدو" عام 1468 ق.م وظلت أراضي الشام لقرون طويلة تحت حكم المملكة المصرية.

أما العبرانيون، فقد ظلوا مشردين إلى أن جاء النبي موسى عليه السلام وأعادهم إلى أرض كنعان عام 1250 ق.م. وفقًا لنصوص التوراة، قاد يوشع بن نون جيش بني إسرائيل، وعبر بهم إلى أريحا التي احتلوها. لاحقًا، انقسم اليهود إلى قسمين: مملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة (نابلس)، التي دامت 250 عامًا حتى سقطت بيد الملك الآشوري شلمنصر عام 722 ق.م، ومملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم (القدس)، التي استمرت 130 عامًا قبل أن يسقطها نبوخذ نصر، ملك بابل، عام 580 ق.م، وقام بسبي سكانها.

عاد اليهود مجددًا إلى فلسطين على يد قورش، ملك الفرس. بعد ذلك، خضعت فلسطين للفتح اليوناني بقيادة الإسكندر المقدوني عام 332 ق.م، واستمرت الإمبراطورية اليونانية 272 عامًا. تبعها الحكم الروماني عام 63 ق.م بقيادة بومبي. ثم جاء الفتح العربي الإسلامي عام 637 م، وظلت فلسطين تحت الحكم الإسلامي لأكثر من 880 عامًا، إلى أن استولى عليها العثمانيون عام 1517 م في عهد السلطان سليم الأول.

في عام 1895 م، كان عدد سكان فلسطين نصف مليون نسمة، منهم 47 ألف يهودي، امتلكوا حينها حوالي خمس الأراضي الفلسطينية. ومع تزايد الاضطهاد الأوروبي لليهود في القرن الثامن عشر، طرح تيودور هرتزل فكرة إقامة دولة لليهود، إما في الأرجنتين أو في فلسطين.

السند القرآني لملكية اليهود لأرض فلسطين
يستند من يدعون ملكية اليهود لأرض فلسطين إلى عدة آيات قرآنية، منها:

  • قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ" (المائدة: 20).
  • وقوله: "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ" (المائدة: 21).
  • "وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحُسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون" (الأعراف: 137).
  • "ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين" (القصص: 5).
  • "ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحُكم والنبوةَ ورزقناهم من الطيباتِ وفضلناهم على العالمين" (الجاثية: 16).
  • "وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً" (الإسراء: 104).

أما التوراة، فقد احتوت على نصوص عدة يستشهد بها اليهود لإثبات ملكيتهم لأرض فلسطين. ومع ذلك، يشير كثير من العلماء إلى أن التوراة تعرضت لتحريف كبير، خاصة ما يتعلق بالقصص والأساطير، ومن أبرزها قصة الخروج الأعظم من أرض مصر.

منذ أن طرح تيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية، فكرة إنشاء دولة تجمع شتات يهود العالم، تلاحقت الأحداث التي أسهمت في تحقيق هذا المشروع. كانت البداية مع اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت العالم العربي إلى مناطق نفوذ، مع بقاء فلسطين تحت إدارة دولية، ثم جاء وعد بلفور ليؤسس لإقامة دولة يهودية على الأراضي الفلسطينية، مستغلاً دعم لورد روتشيلد في تشجيع اليهود على شراء الأراضي الفلسطينية.

وفي هذا السياق، يُطرح التساؤل: هل كان التاريخ أو الدين منصفين للقضية الفلسطينية؟ أم أن تحويل الصراع إلى نزاع ديني عقائدي قد أسهم في إضعاف حقوق الفلسطينيين؟ لقد اعتمد الكيان الصهيوني على العقيدة لتبرير وجوده، وجعلها أساساً لتفتيت دول الشرق الأوسط على أسس طائفية، ما سهّل تنفيذ مخططات التقسيم وإضعاف الدول المحيطة، حتى لا يبقى من يمكنه مواجهته في إطار نظام عالمي يُرسخ هيمنة إسرائيل كقوة مركزية.

من ناحية أخرى، فإن تصعيد الشعارات الدينية في مواجهة الاحتلال أسهم في استمرار ضياع القضية الفلسطينية، حيث استغلت الجماعات المتطرفة القدس المحتلة كرمز لتحريك الشعوب، وحشدها ضد الأنظمة الحاكمة لتحقيق مصالحها الخاصة. وقد أدى هذا الاستغلال إلى تأجيج مشاعر الجماهير وخلق بيئة مناسبة لهذه الجماعات للتوغل في المؤسسات والسيطرة على المشاعر العامة، وصولاً إلى السعي للهيمنة السياسية.

كلما هدأت الأجواء، تعمدت هذه الجماعات إثارة قضايا مرتبطة بفلسطين لإحياء شعاراتها، كما حدث مؤخراً مع قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث استغلوا ردود الأفعال لإعادة الفوضى إلى الشوارع تحت غطاء الاعتراض، بينما هدفهم الحقيقي هو تحقيق مكاسب سياسية على حساب استقرار الدول العربية.

ومع مرور الوقت، أصبحت معالجة القضية الفلسطينية تتطلب منظوراً قانونياً بعيداً عن العواطف والشعارات. ينبغي إعادة تقييم جميع القرارات الدولية، بدءاً من قرار الأمم المتحدة 181 لعام 1947 إلى القرارات المتعلقة بحدود ما قبل 5 يونيو 1967. ويتطلب ذلك الالتزام بحل الدولتين، بحيث تصبح القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، مع انسحاب إسرائيل من الأراضي المحددة وفقاً للقرارات الدولية، وخضوعها للرقابة الدولية.

لكن السؤال الحقيقي هو: هل يمتلك العرب الجرأة لتغليب العقل على المشاعر للمرة الأولى، وإلزام إسرائيل بالشرعية الدولية؟ أم أن طموحات الاحتلال بتهجير الفلسطينيين والسيطرة على كل أراضيهم ستستمر دون رادع؟

لقد أثبتت الأحداث الأخيرة منذ السابع من أكتوبر الماضي أن السياسات السابقة لم تحقق حلاً حقيقياً للقضية الفلسطينية، بل إن تمسك الشارع العربي بالشعارات العاطفية أتاح للعدو الصهيوني فرصة استكمال مشروعه، مستفيداً من غياب التوافق الدولي حول نهاية محددة للصراع. وفي المقابل، دعمت الجماعات الراديكالية تمدد الاحتلال، غير آبهة بالخسائر البشرية، مما أدى إلى مأساة ذلك اليوم.

ومن هنا، يبدو أن الحلول السلمية والتفاوضية باتت غير مجدية، وأن المنطقة قد تواجه صدامات مباشرة مع العدو، وهو ما تسعى القيادة السياسية لتجنبه قدر المستطاع ومع ذلك، قد يصبح إظهار القوة أمراً لا مفر منه، رغم التكاليف الاقتصادية والخسائر المحتملة.

الدكتورة دينا السايح القدس العقيدة السياسة خط أحمر
قضية رأي عامswifty
بنك القاهرة
بنك القاهرة