الدكتور أحمد عبود يكتب: الهجرة بين السعي في الأرض والاعتبار بآيات الله
خط أحمرالهجرة كانت ولا تزال موضوعاً مهماً عبر العصور، وهي مفهوم يحمل في طياته أبعاداً دينية، اجتماعية، واقتصادية. في عصرنا الحالي، هجرة الشباب للخارج بحثاً عن فرص أفضل أصبحت ظاهرة متزايدة في العديد من الدول، خاصة تلك التي تعاني من الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية. إلا أن هذا السعي لا يجب أن ينفصل عن توجيهات الدين والاعتبارات الأخلاقية. في هذه المقالة، سنستعرض بعض الآيات القرآنية التي تدعو إلى التفكير العميق في موضوع الهجرة، وما قد تحمله من فوائد وتحديات.
الهجرة في القرآن: موعظة وتوجيه
القرآن الكريم يتناول مفهوم الهجرة من عدة جوانب. في سياق قصة هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة، كانت الهجرة وسيلة لحماية الدين ونشره. ومن خلال هذه القصة، نستلهم بعض القيم المرتبطة بالسعي في الأرض طلباً للرزق أو الأمان. يقول الله تعالى:
> "وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ"
(النساء: 100)
هذه الآية تتحدث عن الهجرة في سبيل الله، ولكنها تُلمح أيضاً إلى حقيقة أن الأرض واسعة لمن يسعى فيها بجد، وأن الإنسان الذي يترك موطنه لأسباب مشروعة، سواء دينية أو اقتصادية، سيجد في الأرض ملاذاً ومصدر رزق جديد.
سعي الإنسان في الأرض والرزق
الهجرة الاقتصادية هي الأكثر شيوعاً بين الشباب اليوم، حيث يسافرون للبحث عن فرص عمل أفضل أو ظروف حياة مريحة. وفي هذا السياق، يذكّرنا الله تعالى:
> "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"
(الملك: 15)
هذه الآية توضح أن الأرض مهيأة للإنسان للسعي والعمل فيها، وأن رزق الله منتشر في كل مكان. لكن الربط بين السعي في الأرض والعودة إلى الله يذكرنا أن الرزق الحقيقي ليس فقط في المادة، بل في القرب من الله والاستعداد للحياة الآخرة.
الهجرة كنوع من الابتلاء
رغم أن الهجرة قد تبدو خياراً يسيراً في الظاهر، إلا أنها تترافق مع تحديات نفسية واجتماعية، خاصة للشباب الذين يتركون خلفهم أهلاً وأوطاناً. القرآن الكريم يُعرّف الهجرة أحياناً كنوع من الابتلاء، يختبر فيه الإنسان قوة إيمانه وصبره. يقول الله تعالى:
> "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ"
(البقرة: 214)
الهجرة، سواء كانت لله أو بحثاً عن حياة أفضل، قد تكون مصحوبة بمشقات كثيرة. لكن الله يذكرنا هنا أن الابتلاء جزء من رحلة الحياة، وأن النصر أو النجاح دائماً قريب لمن يصبر ويتوكل على الله.
أمثلة معاصرة عن هجرة الشباب
اليوم نرى ملايين الشباب من الدول العربية والإفريقية يهاجرون إلى أوروبا وأمريكا بحثاً عن فرص أفضل. يواجه هؤلاء الشباب تحديات كبيرة مثل الغربة، اللغة، والاندماج في مجتمعات جديدة. وعلى الرغم من أن الكثير منهم ينجح في بناء حياة جديدة، إلا أن بعضهم قد يقع ضحية للضغوط الاجتماعية أو ينخرط في سلوكيات غير أخلاقية بسبب تأثيرات المجتمع الغربي.
في هذا السياق، يجب على الشباب أن يتذكروا أن السعي للرزق لا يجب أن يكون على حساب الأخلاق أو الدين. الهجرة ليست مجرد رحلة جسدية، بل رحلة روحانية أيضاً، تتطلب من الفرد أن يبقى قريباً من قيمه ومعتقداته.
الاعتبار بالعبر من الهجرة
عند النظر إلى هجرة الشباب في العصر الحالي، نجد أن هناك دروساً يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. الهجرة قد تكون ضرورة لبعض الأفراد، لكنها ليست حلاً كاملاً. يجب أن نعمل جميعاً على إصلاح الأوضاع الداخلية في مجتمعاتنا لخلق بيئة تتيح للشباب العمل والنجاح دون الحاجة إلى مغادرة أوطانهم.
وكما قال الله تعالى:
> "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا"
(النساء: 97)
في هذه الآية تذكير بأن الأرض واسعة، ولكن الخيار للهجرة ليس دائماً هو الأفضل إذا كان يتعارض مع مبادئنا أو يوقعنا في المعصية.
الخاتمة: الهجرة مسؤولية وتوازن
الهجرة سلوك مشروع وقد يكون مطلوباً في بعض الأحيان، لكن على الشباب أن يدركوا أنها ليست مجرد مسألة رزق مادي، بل هي أيضاً مسؤولية أخلاقية ودينية. الحفاظ على التوازن بين السعي في الدنيا والاهتمام بالآخرة هو المفتاح لنجاح أي رحلة، سواء كانت هجرة جسدية أو معنوية.
الأرض واسعة والله هو الرازق، لكن الأهم هو أن يبقى الإنسان على صلة بخالقه أينما ذهب، وأن يسعى للرزق بتقوى ووعي.