جرجس بشرى يكتب : أيهما ينتصر أولاً .. العلم أم الأخلاق ؟


كثيرون يتسآلون : أيهما أنفع للأمة : العلم أم الأخلاق ؟ وفي الحقيقة الإجابة على هذا السؤال لا تتطلب كل هذا العناء والمشقة في البحث ، لأنه من البديهي أن كل علم وكل تقدم وكل إنجاز وكل ثورة بلا أخلاق فهي والعدم سواء ، ومن المقطوع به أن الأخلاق هي الدعامة والركيزة الأساسية التي أنزلت من أجلها الأديان السماوية " اليهودية والمسيحية والإسلام " ، فالرسول الكريم محمد عليه السلام جاء ليتمم مكارم الأخلاق ، وقيل عنه أنه : " كان قرآناً يتمشى على الأرض " ، كما أن من يتأمل الوصايا العشر في الديانة اليهودية يدرك تماماً أنها تجسيد واقعي لما يتطلب أن يكون عليه المرء من خلق حيث نهت عن القتل والشتم والزنا والحلفان والشهادة الزور و ... و... .
وفي المسيحية أيضا عندما نقرأ الموعظة على الجبل للسيد المسيح له كل المجد سندرك أنها جاءت لترتقي بالإنسانية إلى أعلى درجات السمو الأخلاقي عندما أمرت بمحبة الأعداء ومحبة الأخ في الإنسانية إلى آخره من الفضائل التي تعتبر ، للآن وستظل دستوراً أخلاقياً وانسانياً للبشرية ، وبالتالي فأي علم بدون الإلتزام بالمعايير الأخلاقية ماهو الإ إنحرافاً عن الإنسانية والقيم الدينية لأمور تؤدي إلى تدمير للبشرية كلها .
كما أن الثورات نفسها على أنظمة الحكم المستبدة والأنظمة الطاغية التي تستعبد البلاد والعباد لا يمكن أن تسمى ثورة بالمعنى الحقيقي بل هي إنحراف واضح للثورات عن اهدافها النبيلة القائمة على أساس السلمية والحق والقانون والإنحياز لإرادة الشعوب الحرة والعدالة الإجتماعية ، حتى الحروب المذهبية التي رأيناها سابقاً في العصور الوسطى في المسيحية كانت إنحراف واضح للدين عن مساره وهدفة ومحاولة تطويعه لتحقيق مآرب سياسية خبيثة تحت ستار ديني واخلاقي والأخلاق والدين أبرياء منها .
ودعونا نتأمل شيئاً بسيطاً بعد ثورة 30 يونيو المجيدة التي انتفض فيها المصريون للدفاع عن وحدتهم ووطنهم وثوابتهم وحريتهم من الأختطاف .. هذه الثورة التي قلما تتكرر في التاريخ الإنساني والتي أحبطت أكبر مخطط جهنمي لتدمير وتخريب وطمث هوية المنطقة كلها إستطاع الجيش المصري وجهاز الشرطة المصرية الإتحاد بإرادة الجماهير الحرة لإسقاط هذا المخطط الشيطاني الإخواني المدعوم من قوى مخابراتية معادية للدولة المصرية وإبعاد شبح الدمار وشلالات الدم عن المنطقة ..
إنها ثورة عظيمة سيتوقف عندها التاريخ البشري طويلاً ، والسؤال هنا : ماذا ينقصنا من ثورات حتى تؤتي ثوراتنا المجيدة ثمارها المرجوة ؟ خاصة وأننا نلحظ ونرى بأعيننا أنجازات مهمه للثورة على المستوى الإقتصادي، ولكن ماالذي ينقصنا حتى تكتمل ثورتنا ؟ وأنا هنا أقول لكم وبدون مبالغة ولا مزايدة أنه ينبغي بالتوازي مع هذه الثورة إحداث ثورة مدوية في منظومة القيم والأخلاق في مجتمعنا المصري بل والمجتمع العربي بأسره ، خاصة وأن الشعب المصري العظيم لديه مخزوناً عجيباً وبالفطرة من القيم والأخلاق والتدين ولكن الذي ينقصه هو كيفية توظيف المصطلحات الأخلاقية في مكانها الصحيح وتسمية الأمور بمسمياتها ، ووضعها في مكانها الصحيح ، وجعل الأبيض أبيضاً والأسود أسوداً.
وعدم الإنحراف بين البينين ، وأضرب لكم مثالين على ذلك ــ والأمثال كثيرة ــ ، ففي واقعة وفاة الرئيس المعزول محمد مرسي رأينا هرولة عدد لأباس به من الذين كانوا يلعنون الرجل ويطالبون بإعدامه وصفونه بالجاسوس والخائن يسارعون إلى الترحم عليه بحجة الإنسانية.
وأنا شخصيا أرى في هذا الحدث انحرافا جليا وإنزلاقا بينا ً لمفهوم " الإنسانية " ، خاصة وأن الدين والأخلاق والمباديء بل والعُرف العام والتاريخ إدانة هؤلاء وعدم التعاطف معهم لئلا يتجرأ البسطاء والعامة وينزلقون إلى أفكارهم الإرهابية ويتعاطفون معها ، فالإسلام توعد من أفسدوا وعاثوا فسادا في الأرض بالهلاك والخزي في الدنيا والآخرة وتوعدهم بأشد العذاب ، كما أن المسيحية نفسها تدين الشر والأشرار ومن سفكوا الدماء حيث يقول الكتاب المقدس " لا سلام قال إلهي للأشرار" وقيل عن الأشرار : " في طريقهم اغتصاب وسحق وطريق السلام لم يعرفوه " .
بل ووصل الأمر بـ " داود التبي " أنه قال عن الأشرار : "بل يعينيك تنظر وترى مجازاة الأشرار " ، فكما أنه تحت ستار الوطنية والدين رأينا جماعات وأفراد ورؤساء دول يرتكبون الموبقات والجرائم بحق شعوبهم ، فأيضا رأينا تحت ستار الإنسانية الترحُم على رئيس ينتمي لجماعة إرهابية روعت المصريين وعاثت فسادا في الأرض وقتلت جنود الجيش والشرطة وسفكت الدماء واستحلت الأرض والعرض وحرمة دور العبادة الإسلامية والمسيحية .
كما أن التاريخ نفسه لا يبجل القتلة والخائنين لأوطانهم ولا يسقط جرائمهم بالتقادم ، بل يضعهم في مكانهم الصحيح وهو " مزبلة التاريخ " ، وهو يجعلنا نؤكد وبأعلى صوت أن الرحمة تجوز بل وواجبة فقط على أرواح جنودنا التي سفكت على يد هذا الإرهابي الذي وإن مات ما زالت أفكاره الإرهابية المدمرة تقتل بلا هوادة جنودنا في سيناء وتيتم أولادهم وزوجاتهم وتقهر نفوس أمهاتهم الثكلى .
وهناك مثل آخر لا يقل أهمية يتعلق بمصطلح التعاطف الذي تم تشويهه وهو واقعة التحرش الخاصة بلاعب المنتخب " عمرو وردة " ، فما رآيناه في هذه الواقعة كان عجبا وبل ويفوق الخيال ، حيث هرول البعض للدفاع عن وردة والتعاطف معه وإيجاد مبرر له للإفلات بجريمته ، مع أن هؤلاء المدافعون والمتشنجون والشاطحون في الدفاع عن وردة لو حدثت هذه الجريمة لزوجة من زوجاتهم أو لبناتهم أو لإحدى أخواتهم كان سيكون لهم تصرف آخر ! يا سادة .. الحرام بيَّن والحلال بيَّن " ، وإدانة الشر واجبة أم التبرير لهذه الجرائم وعدم وضع الأمور في نصابها الصحيح هو الخطر .
هناك الكثير والكثير من الأمثلة التي تؤكد وبما لا يدع مجالا ً للشك أننا بحق في حاجة ماسة الآن قبل أي وقت مضى لثورة أخلاقية ، وثورة على ضبط وتحديد المفاهيم ووضعاها في نصابها الصحيح ، كي لا تتخرج لدينا أجيال مضطربة متذبذبة لديها خللا في الهوية ذاتها ، ولعلني هنا اختتم المقال بمعادلة مهمة للخوارزمي عالم الرياضيات الشهير أطلق عليها " معادلة الأخلاق " حيث قال : إذا كان الإنسان ذو أخلاق فهو رقم (1 ) ، وإذا كان ذو جمال فأضف إلى الواحد صفر أي يساوي (10 ) ، وإذكان ذو مال فأضف صفرا ً آخر إلى (10 ) أي يساوي (100 ) ، وإذا كان ذو حسب ونسب لإضف صفراً آخر إلى ( 100 ) أي يساوي (1000 ) ، فإذا ذهب العدد ( 1 ) وهو الأخلاق بقيت الأصفار ، أي بدون الأخلاق لا قيمة لك.
ومن المؤكد أن نظرية الخوارزمي تؤكد وتتسق مع الواقع الذي نصبوا إليه وهو الأخلاق ، ولعلني هنا أيضا أختتم مقالي بهذا البيت من الشعر للشاعر الكبير أحمد شوقي حينا قال : إنما الأمم الأخلاق ما بقيت : وإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا " ، وهو نفسه الذي قال : " وإذا أصيب القوم في أخلاقهم : فأقم عليهم مأتما ً وعويلا " ، وفي النهاية أحب أن أؤكد أنه لا قيمة لعالم أو لشاعر أو رجل دين أو قيادة سياسية بعلمه أو خبراته أو.. أو.. بل أن القيمة الحقيقة للإنسان في خلقه وليس في قلة أدبه ... وللموضوع بقية ...