أشرف غراب يكتب: الحرب الروسية الأوكرانية.. قراءة من واقع الأزمة


أبينما تتجه أنظار العالم صوب أوكرانيا حاليًا، تُنذر الأزمة المتصاعدة بعواقب تتجاوز حدود القارة الأوروبية، ليشعر بها الناس على بُعد آلاف الأميال؛ وتحديدًا فى المنطقة العربية التى كانت على موعدٍ مع القدر، فمنذ بداية الحديث عن الرد الغربى لأى عدوانٍ روسىٍّ على أوكرانيا، برزت العقوبات الاقتصادية كأداةٍ رئيسةٍ فى ترسانة الغرب على روسيا بمجرد أن أشعلت سماء أوكرانيا بنيرانها البائدة، وقد طُرح ملف الطاقة، وتحديدًا إمدادات النفط والغاز الروسى، كورقة مساومة أساسية فى هذا الإطار، لكن هذا الملف مثَّل فى الوقت نفسه سيفًا ذا حدين؛ فمن جهةٍ يُمثِّل فرض عقوبات على قطاع النفط والغاز الروسى صفعةً لموسكو، التى تُشكِّل صادراتها من النفط والغاز إلى أوروبا رافدًا رئيسيًا لاقتصادها، ومن جهةٍ أخرى، قد تعنى هذه الخطوة أن يجد الاتحاد الأوروبى نفسه فى موقفٍ حرج؛ نظرًا لاعتماده على الغاز والنفط الروسى بشكلٍ كبير، حيث إن الاتحاد الأوروبى يعتمد بنسبة تزيد على 40% على الغاز الروسى، فى حين تصل صادرات النفط الروسى إلى الاتحاد نحو 27% من إجمالى إمدادات النفط الواردة إليه، وهو الأمر الذى يُعطى روسيا قوةً كبيرةً فى سوق الغاز والنفط فى الاتحاد الأوروبى، وينظر الأوروبيون وحليفهم الأمريكى للدول العربية المُنتجة للغاز والنفط كقطر والسعودية والجزائر وغيرها، بوصفها مصدرًا يُمكن أن يُعوِّض بعض النقص فى إمدادات الغاز والنفط إلى أوروبا، كما أنه يلعب دورًا فى استيعاب الاضطرابات التى قد تُصيب السوق العالمى للنفط؛ نتيجةً للتوترات، ومجابهةً للأسعار التضخمية لذلك السائل التى تدور به أحوال ثلث سكان الكوكب من روسيا وأوكرانيا، ورغم أن هناك ثمة مفاوضات تُجريها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى مع قطر وغيرها من كبار منتجى الغاز الطبيعى فى العالم، فإنها لا تعدو كونها مساعى لـ"تخفيف حِدَّة الضرر"، إذ يُؤكِّدون أن جميع صادرات الولايات المتحدة وقطر وأستراليا لا تكفى لسد حجم صادرات روسيا من الغاز إلى الاتحاد الأوروبى، خاصةً فى ضوء التزام قطر وأستراليا بعقودٍ مع المستهلكين فى آسيا، فضلاً عن وجود صعوبات لوجستية فى تصدير الغاز المسال إلى بعض الدول الأوروبية، ويقولون إن "الأوروبيين سيضطرون إلى دفع أسعار غالية جدًا لشراء الغاز، وهو ما سيُكلِّف الاقتصاد الأوروبى الكثير".
أيضًا تلوح فى الأفق تداعيات خطيرة جراء الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا على الدول العربية من الناحية الاقتصادية؛ تتمثَّل فى الأمن الغذائى بغض النظر عن مكانها أو موقفها من التوتر بين روسيا والغرب حول أوكرانيا، إذ تجد الكثير من هذه الدول نفسها أمام تحدٍ خطير يتمثَّل فى الأثر الذى قد يتركه تصاعد حدَّة الصراع فى أوكرانيا على إمدادات المنطقة من المواد الزراعية، وبخاصة القمح، وعلى أسعار المواد الغذائية على مستوى العالم، إذ تحتل روسيا وأوكرانيا مركزًا مهمًا فى سوق المواد الزراعية فى العالم، وتُمثِّل صادراتهما من القمح 23 % من السوق العالمية، فى حين تُوردان ربع إنتاج الحبوب فى العالم، وتُوزع الغالبية العظمى من صادرات أوكرانيا من الحبوب عبر البحر الأسود، والتصعيد فى تلك الأزمة سوف يكون له عواقب وخيمة للغاية على الأمن الغذائى فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتى استحوذت على 40% من صادرات أوكرانيا من الذرة والقمح عام 2021، كما سيترك تصاعد التوتر فى أوكرانيا أثرًا كبيرًا، وإن كان بشكلٍ غير مباشر على الوضع الإنسانى فى عددٍ من الدول العربية، حيث إن المساعدات الإنسانية التى تصل إلى المنطقة ستتأثَّر بشكل كبير فى حال طال أمد النزاع المسلح فى أوكرانيا بين الجارتين، إذ سيؤدى وجود أزمة إنسانية فى أوكرانيا؛ نتيجةً الصراع المُندلع إلى تحويل التمويل والموارد الطارئة بشكلٍ أكبر نحو أوكرانيا، بعيدًا عن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إضافةً إلى الدور الذى تأمل الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون أن تتمكَّن الدول العربية المنتجة للغاز من لعبه فى تعويض النقص فى إمدادات الغاز الروسى إلى أوروبا، تتطلع واشنطن إلى أن يُسهم كبار منتجى النفط فى العالم العربى؛ وعلى رأسهم السعودية، فى منع الارتفاع الشديد فى أسعار النفط العالمية؛ نتيجةً للمخاوف المتعلَّقة بالأزمة الأوكرانية الروسية، عبر زيادة إنتاجهم من النفط.
الأزمة كبيرة بلا شك وإن الحرب القائمة بين روسيا وأكرانيا تمثِّل خطرًا على كل دول العالم؛ بما فيها الدول العربية، ونحن نرى العقوبات الدولية المفروضة على روسيا، وهناك دول هى الأكثر تأثرًا بالطبع بالأزمة، خاصةً من الناحية الواردات الغذائية من تلك الدولتين، وبالأخص القمح، المصدر الرئيس للغذاء، والتى منها المغرب ومصر والجزائر يُضاف إليها دول الخليج وعلى رأسها السعودية، فمصر مثلًا من أكبر مستوردى القمح، وأكثر من 75% يتم استيراده من روسيا وأوكرانيا، لذلك سيتم رفع سعر استيراد القمح، والمغرب التى تعتبر الأكبر استيرادًا للقمح من روسيا، بينما الجزائر من أوكرانيا، وهذا يُعدُّ من الأسباب السلبية الناتجة عن تلك الحرب القائمة بين البلدين، أما عن القطاع السياحى، فمصر أكثر سياحها أو ما يُعادل 35 % من روسيا وأوكرانيا فى الفترة الأخيرة وبعد التعافى جرَّاء أزمة كورونا، لذلك يتأثر قطاع السياحة.
أما عن البورصات وأسواق المال فى العالم سوف تتأثَّر كثيرًا فى الأزمة الروسية الأوكرانية، وأيضًا أسعار الذهب ستقفز إلى مستوى غاية فى الارتفاع، إضافةً إلى توقَّف عمليات الشحن والنقل، لعدم الاستقرار، وذلك برًا وبحرًا وجوًا، وهو ما سيؤثر على المخزون الاستراتيجى لغالبية الدول المستوردة بالطبع، وربما يخلق حالة تضخمية فى الأسعار تنفجر على إثرها أزمات أضخم، ونحن العرب جزء من أسواق المال فى العالم نتأثَّر بالطبع، كل ذلك يُعدُّ من الجوانب السلبية لتلك الحرب القائمة، وربما على منطقتنا العربية قد يكون الجانب الإيجابى فى تلك الأحداث ألا وهو الغاز، إذ سيرتفع سعره بشكل كبير فى ظل الأزمة الحالية، وبالتالى سيتم تقديم كل الدعم والتسهيلات وبمحاولة مع آخرين لسد الفراغ أو العجز الناشئ عن عدم وصول الغاز الروسى إلى أوروبا، فبذلك سوف تزيد القدرة التصديرية، وسوف تزيد إيرادات الغاز بشكل ملحوظ، وهذا يُعدُّ مكسبًا كبيرًا لاقتصادنا العربى فى الفترة المقبلة.
لا شك أن الغزو هو جزء من ملامح العالم الجديد الذى تتصدَّره روسيا والصين من وجهة نظرهما، وهذه جولة من ضمن جولات العالم الجديد القائمة، كما أنه متوقعٌ أن يكون من تداعيات هذه الحرب انفصال أوروبا عن أمريكا، وإضعاف أمريكا من هذا الجانب، وأن الصين هى قاعدة هذه الحرب، ورأس الحربة هى روسيا بشكل عام، وقد يُثمر هذا الأمر عن أن الرئيس بوتين قد يُعيد الاتحاد السوفيتى إلى مكانه السابق، وعدم دخول الناتو بشكلٍ جدىٍّ فى تلك الأزمة إلى الآن يضعف موقف أمريكا والغرب، وأن روسيا لن تقف عند غزو أوكرانيا فحسب بل قد تتطلع إلى ما هو أكثر فى ظل تلك الأحداث والمجريات والتطلعات الروسية، ولا يوجد ملامح لمن سيُسدد فاتورة هذه الحرب، لأن الحرب ما زالت قائمة ونحن فى المشهد الافتتاحى، فلذلك لا نستطيع التحدُّث حاليًا عمن سيُسدِّد فاتورة هذه الحرب إلا بعد متابعة آخر التطورات القائمة بين روسيا وأوكرانيا.
بالطبع هناك حيرة بين الدول العربية فيما يتعلَّق بالمصالح السياسية سواء مع المصالح الروسية أو الأمريكية، أمثال دولة قطر، فلها مصالح مع كلا الطرفين، كما أن تعاملات روسيا المالية غير مستقرة، لذلك سوف تتجه إلى تعاملاتها مع الصين وكوريا الشمالية وإيران.
الحرب ستُحدث عجزًا كبيرًا بورادات الدول، وسيتأثر بها الفقير والغنى، وسيكون الانعاكس الأكبر على دول الخليج والتى ستتأثر بارتفاع أسعار كل شىء، وكذلك ارتفاع سعر برميل البترول، وهنا لابد من استخدام الأزمة لإيجاد الإيجابيات، وهنا لابد من دعم الفلاح وحثه على زراعة المحاصيل الاستيراتيجة، والقضاء التام على مافيا مستوردى القمح، وكذلك لابد من توسيع الرقعة الزراعية، وحث الفلاح على التوسُّع فى الزراعة والعمل على حل جميع مشكلات الفلاح فى الدول الزراعية، كما أنه لابد من وجود الاستقرار الأمنى لجميع أنحاء العالم وبالأخص فى منطقتنا العربية، ولقد عصفت الأزمة بالكثير الذى سيضر بالعالم أجمع، حيث إن الدولتين ينتجان أكثر من ربع إنتاج العالم من القمح وأيضًا الطاقة والغاز، وهذا سيترتب عليه ارتفاع كل شىء من السلع الغذائية، ومن أسعار برميل البترول، وكذلك أسعار الذهب، وهنا لابد من الاستفادة من تلك الأزمة وتحويلها لإيجابيات، ولابد من إحلال الوارد بالإنتاج الداخلى للسلع الأساسية التى تقوم عليها الصناعة.
ربما لا يطول أمد الحرب كثيرًا، وستلعب الدبلوماسية دورها فى الأيام المقبلة بين الكبار، ومهما كانت المساومات، لكن يبقى أثر الأزمة قائمًا من الناحية الاقتصادية بضعًا من الوقت، فعلى الدول العربية أن تعمل على الإنتاج مستقبلًا وتغلق ولو رويدًا رويدًا حنفية الاستيراد، التى أوقعتها فى مآزق كثيرة من قبل فى ظل الصراعات الدائرة بين الأقطاب الكبار، كما على الدول العربية أن تتكاتف فى خلق الحلول خاصةً فى نقطة الغذاء، بالاستثمار فيما بينها على الرقعة الزراعية والاستصلاح بالفضاء الشاسع فى معظم أراضيها، وتوفير الإمكانيات والإمكانات والسيولة المادية اللازمة لهذا، وتفعيل الصندوق العربى وإدماج بعض الأهداف الحيوية فيه، لتكون هدفًا أسمى يجنبنا المخاطر تلك، وأيضًا توسيع دائرة الأسواق التى تتعامل معها بالشكل الذى تحتاجه المرحلة، فلا أحد بإمكانه تحديد خريطة العالم الآن فى ظل التغول النووى الحادث على الأرض، وأيضًا لعبة المصالح والعمل لأهداف محددة، ليس فيها تعاطف مع البشرية، وإنما بقاء الدول العظمى الكبار.
ربما ستتغير التحالفات، وتتبدل العلاقات، وتنفرج أزمات كالأزمة الإيرانية بين طيات الروسية والأوكرانية، وسوف يكون ذلك وضعًا جديدًا بالشرق الأوسط، سواء كان تقاربًا روسياً إيرانيًا أو إيرانياً روسيًا أمريكيًا، بتلاعب إيران على الطرفين للخروج بمكاسب، ربما منها رفع العقوبات وتخفيفها، مقابل إمداد أوروبا بالبترول وتعويض الفاقد الروسى الكبير لها، لأنها من أكبر مصدرى النفط، أو التقارب الروسى لإمالة أمريكا وفرض شروطها، وهنا على العرب أن يتدارسوا الوضع الجديد سياسيًا مستقبلًا، حتى لا نُفاجأ بأننا كبش الفداء والعداء.
إن كان العرب فى مأزق الغذاء بالفعل إلا أنهم تفتحت أمامهم الفرص ولو قليلًا، إذ لديهم من الكنوز ما يجعل الأرض تحت أقدامهم، لذلك يجب الاستثمار الأمثل للموارد من خلال توسيع اتفاقيات تبادل الخبرات فيما بينهم، والعمل على الأرض، لا جعلها مجرد أوراق، بها حبر لا يتعدى الخط الذى نُقش عليه، وليس ما نحن بصدده ببعيد، فقد رأينا التكاتف الأوروبى الأمريكى جليًا وواضحًا حتى فى الحرب قبل السلم، ولتكن هذه دروس مستفادة نتعلَّم منها جيدًا لئلا نكرر الخطأ مرات ومرات.