محمد عبد اللطيف يكتب .. الحرب واللاحرب بين واشنطن وطهران


ارتفعت سخونة الأحداث فى منطقة الخليج العربى بصورة متسارعة ، ولم تتوقف وتيرتها المتصاعدة عند حدود الحرب الكلامية بين واشنطن وطهران ، لكنها امتدت الى اجراءات على الأرض، زادت من التكهنات الرامية لاندلاع حرب عسكرية ، تمثل ذلك فى اغلاق أمريكا قنصليتها بالبصرة، ومطالبة رعاياها بمغادرة العراق، ناهيك عن تهديدات ادارة ترامب بتوجيه ضربات ساحقة لإيران، تقابلها تهديدات أكثر سخونة وعنترية من الملالى ضد امريكا واسرائيل.
مع تزايد سخونة التهديدات المتبادلة ،بات صوت الحرب هو الأعلى في الفضاء الاعلامى ، ما جعل المتابعون يرون أن المنطقة أصبحت مهيئة،بالفعل، لحرب واسعة النطاق ،حرب متعددة الخنادق، بحسب تعدد أطراف المصالح، وأن سيناريوهاتها ستجعل منطقة الشرق الأوسط مسرحاً لحرب كونية.
نعم ..المشهد بصورته الاعلامية، يجعل جدية الحرب تتقدم على كل ما سواها، ويشير الى أن المنطقة أصبحت على شفا بركان يتأهب للانفجار فى أى لحظة ، وأن تلك اللحظة التى تعنى اشارة البدء، سيحددها أى من الطرفين"أمريكا أو ايران"، ، كما أن هناك شواهد أخرى تزيد من الميل نحو تصاعد وتيرتها فى المنطقة، ظهرت جلية باستهداف الناقلات البحرية فى دولة الامارات العربية ، وتخريب بعض منصات استخراج البترول بالسعودية عبر عملية ارهابية متقنة .
لكن القراءة المتأنية للمشهد ، رغم تعقيداته ، تجعلنى أذهب بالرؤية الى زاوية مغايرة تماماً للتصريحات والتهديدات المتبادلة ، كما أننى، وفق قراءتى " لا أميل الى تصديق الخطابين الأمريكى والايرانى على حد سواء ،فكلاهما ، بظنى ،يغازل الآخر ، للجلوس على طاولة التفاوض لضمان أكبر قدر من المكاسب .
يا سادة ... ان اندلاع الحرب فى منطقة الخليج العربى، لاتعني اشتباكاً مباشراً بين أمريكا وايران وحدهما، بل سيشمل المنطقة بأكملها، كما أن دول الخليج العربية لن تقف مكتوفى الأيدى أمام جموح الملالى للسيطرة على المنطقة عبر تحالفها مع حكام قطر المارقين عن الصف العربى ، أو عبر أزرعها المتناثرة فى العراق واليمن، أو تهديداتها باغلاق مضيق هرمز كممر ملاحى استراتيجى ، كل هذه الاشكاليات ، ستحرض بالضرورة ، على دخول أطراف دولية لها مصالح استراتيجية ، مثل روسيا والصين وتركيا وبلدان أوربية، فهذه الدول لن تجلس فوق مقاعد المتفرجين، بل ستتدخل لحماية مصالحها وفرض إرادتها، مايجعل الشرق الأوسط منطقة مشتعلة ، ولنا فى سوريا خير دليل،عندما تعددت القوى المتصارعة من أجل مصالحها ،وعندما جرت تحالفات المصالح بين الأضداد " تركيا وايران "، وعندما تراجعت العنترية الأمريكية والانتهازية التركية أمام ارادة الدب الروسى وكانت سورية هى الخاسر الوحيد أمام لعبة المصالح الدولية .
جانب آخر يجب التوقف أمامه ، يكمن فى أن ساحة المواجهات المحتملة على الأرض ، ستكون العراق ،ولو توقفنا أمام العراق المتشرزم ،الآن، سياسياً وطائفياً ومذهبياً وعشائرياً سيكون الوضع أكثر تعقيداً .... فى أى خندق سيكون، أم أنه سينقسم بين الولايات المتحدة الأمريكية بحلفها المعلن وايران بحلفائها المحتملين، وهل ستكون العراق مسرحاً للحرب الوشيكة، باعتبارها دولة مواجهة ،أم أنه سيدخلها بالإنابة عن هذا الطرف أو ذاك؟
تقديرى، أن ما يحدث بمنطقة الخليج العربى ، الآن، استعراض قوة، ليس الا، والغرض منه تحقيق مكاسب استراتيجية واقتصادية طويلة المدى ، فضلاً عن الابتزاز الأمريكى لدول المنطقة بزعم حمايتهم من تهديد الـ "بعبع" الايرانى، فالولايات المتحدة الأمريكية، بمؤسساتها المعلوماتية والعسكرية، ومراكزها البحثية ، تعلم قبل غيرها أن الحرب مع إيران ستكون لها فاتورة باهظة ،لا تستطيع أمريكا ولا ايران، تحمل كلفتها الاقتصادية والأمنية ، فضلاً عن مخاطر تداعياتها التى ستكون أكثر تأثيراً على العالم، وليس على دول المواجهة فقط .
إيران تهدد بأنها تمتلك ترسانة أسلحة متطورة، وتصريحات قادتها تتضمن التلويح بأنهم قادرون على قلب المنطقة رأسا على عقب، أنا هنا ،لا أؤكد صحة ما تحويه التصريحات ولا حقيقة امتلاك القوة، التى تدعوهم لهذا التباهى البغيض ، كما أننى لا أملك نفيها، لكننى أستطيع تفهمها فى اطار الحروب النفسية ،ففى هذه الحالة ، يصبح كل شئ مباح ،كما أننى أستطيع وفق قراءتى للمشهد ، التأكيد على أن المواجهة العسكرية مع ايران، تعني بالضرورة تهديداً مباشراً لأمن المنطقة بأكملها، وهذا فى ظنى ،ما لا تقبل به دول الخليج ، لكن فى ظل تعقيدات المشهد السريالى ، يبرز على السطح تساؤل مهم ،مفاده ، ما الذى تريده أمريكا من تصعيد خطاب الحرب مع طهران ؟ .. مهما تعددت الصيغ يظل مضمون الجواب واحد ، لا يخرج عن تحجيم النفوز الايرانى فى المنطقة ، وابتزاز أمريكى لدول الخليج العربية ، عبر تسويقها بأن الخطر الإيراني يتصاعد ، وعبر إشعارها بأن الولايات المتحدة هي الوحيدة التى تستطيع التصدى لهذا الخطر، وهذا بدوره سيساهم فى رواج تجارة السلاح، وتنامى الاقتصاد المتعثر للدولة الأكبر فى العالم .
لذا فان الحقيقة التى يجب على الجميع النظر اليها فى سلسلسلة الأزمات التى تصنعها واشنطن ،أنه لو لم توجد ايران على الخريطة الجغرافية، ما تأخرت ادارة البيت الأبيض لحظة فى صناعتها على الساحة كفزاعة مثلما فعلت مع العراق ، ومثلما تفعل الآن مع كوريا وفنزويلا .
ربما يقول قائل ، أن بلدان الخليج ستكون المستفيد جراء ارتفاع أسعار النفط ، لكن فات صاحب القول إن المكاسب التي ستجنيها بلدان الخليج العربى من صعود أسعار النفط ، ستكون جزءاً من كلفة الحرب التى ستحصل عليها أمريكا بصورة أو بأخرى ، ما يعنى أن واشنطن المستفيد الوحيد من ارتفاع الأسعار ان حدث هذا .
خلاصة القول هنا، هو أن الولايات المتحدة لن تخوض حرباً ضد إيران ، وأميل صوب التأكيد على ، أنها لا تستطيع أن تخوضها، لأنها ستكون وبالاً على سوق النفط العالمى بأكمله، كما أن الولايات المتحدة بمؤسساتها الاستخباراتية ، لديها دراية كاملة بتعقيدات المصالح الدولية، والمواقف المضادة لتحركاتها من دول كبرى ،مؤثرة فى القرار الدولى ، دفاعاً عن مصالحها، أما التصعيد والتوتر والأزمة الكلامية والسياسية، فهى فى تقديرى فيلم أمريكى يتم اخراجه على طريقة أفلام هوليود ، وأغلب الظن أن الأزمة الراهنة لن تتجاوز هذه الحدود.