جمال رشدي يكتب: العقل الجمعي المصري


العقل الجمعي هو مجموعة من الثقافات المتنوعة والمستمدة من عدة اتجاهات والتي تشكل وجدان وضمير المجتمع وتعمل علي تماسكه واستمراره، فهو مجموعة القيم والمعايير التي أصبحت واقع " فلكلور" تعامل حياتي وسلوكي لا يتجاوزه الفرد، ذلك العقل هو من يحكم في كل المواقف والأحداث طبقًا لما لديه من أسانيد ثقافية وتاريخية مكتسبة وأصبحت واقع تعايشي.
فالعقل الجمعي المصري هو الأقدم والاقوي عبر تاريخ الإنسانية، ولا نذهب بعيدًا عندما نقول انه المغزى الرئيسي الذي استمدت منه كل المجتمعات ثقافة التعامل والتعايش، ذلك العقل يذهب في قوته بأنه المحرك الرئيسي للعلوم والثقافات في العالم، ومنه قامت الحضارات والفلسفات المختلفة .
فأجدادنا الفراعنة لهم الفضل الأول والأخير في تشكيل العقل الجمعي للإنسانية جمعاء، لأنهم أول من نادوا بثقافة التعايش السلمي وخدمة الإنسان واحترام كينونته، وكل ذلك واضح في مورثات الحضارة المصرية القديمة وما نادت به لرفعه شأن الإنسان روحيًا واجتماعيًا.
ذلك العقل الجمعي المصري استطاع هضم كل الثقافات الدخيلة عبر تاريخ مصر الممتد منذ بزوغ فجر البداية الإنسانية، فكل الذي دخلوا مصر محتلين أو مبعوثين أو وافدين "زائرين" أو لاجئين، خرجوا منها مصريين الثقافة والسلوك والفكر، حتي في اضعف حلقات تاريخها لم يهتز أو يضعف ذلك العقل بل ظل حيًا نابضاً ديناميكي التحرك.
لذلك عاشت مصر إلي يومنا هذا لها حدود جغرافية واحدة وهوية مصرية واضحة، لكن في السنوات الأخيرة من حكم السادات ومبارك تم اختراق ذلك العقل الجمعي بترتيب فائق، والقصد هو إضعاف مصر واختراقها ومن ثم تجهيزها للحظة الخريف العربي الذي حدث في 25 يناير، والدخول بها في دهاليز مخطط الشرق الأوسط الجديد.
مخطي من يتناول ما حدث في مصر خلال الخمسون سنة الماضية بعيدًا عن نظرية المؤامرة الثقافية التي تهدف إلي تفريغ العقل الجمعي المصري من مكوناته التاريخية، لخلخة تماسك المجتمع وقوته، تلك المؤامرة استهدفت تقزيم القامة وتهميش القيمة وهزيمة مورثات الماضي من قيم ومبادئ مجتمعية.
فمن صوت ام كلثوم التي مثلت مكون رئيسي من مكونات العقل المجتمعي وأغنية الأطلال أو أمل حياتي، إلي أغنية بحبك يا حمار هكذا تم اختراق الذوق والفن المصرية، ومن الأسطورة الكروية محمود الخطيب وزملائه في الملاعب فاروق جعفر والشاذلي واينو والجارم وعماشة وطاهر أبو زيد والفذ صالح سليم، إلي ما دعموا تظاهرات رابعة الإرهابية وهربوا إلي قطر ومن رفعوا إشارة رابعة في الملاعب، هكذا سقط العقل المصري الرياضي.
ومن الأسطورة الفنية احمد ذكي وأساتذته حسين رياض ومحمود مرسي ويحي شاهين ويوسف شاهين، وأصدقائه نور الشريف وعادل أمام واحمد عبد العزيز والكثير من ابناء العقل الجمعي الفني المصري، إلي فن السبكي هكذا سقط العقل المصري الفني وتم اختراقه.
ومن توفيق الحكيم ومصطفي لطفي والعقاد وطه حسين ونجيب محفوظ والسباعي وجمال ألغيطاني وحسنين هيكل، إلي مرشد الأخوان و " طظ في مصر " هكذا سقطت هوية مصر وتم اختراقها، ومن محمد علي وأسرته الحاكمة وعظمة عبد الناصر ورؤيته الوطنية، إلي السادات ومبارك ومن ثم الأخوان هكذا سقط العقل المصري السياسي وتم اختراقه .
ثورة 30 يونيو كانت بمثابة صرخة العقل الجمعي المصري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والسيد الرئيس السيسي هو ابن لذلك العقل المصري بكل عمقه التاريخي والثقافي، وما أود أن أطالب به من السيد الرئيس أن يعيد ذلك العقل الجمعي المصري إلي تكوينه الأول قبل وصول السادات للحكم، وذلك عن طريق تنشيط وتفعيل المؤسسات الوطنية الثقافية والفنية والاجتماعية والإعلامية، مع إعطاء مساحة لرواد التنوير لقيادة ذلك العقل إلي الرجوع لسابق عهده.
مع الضرب بيد من حديد علي كل عوامل التعرية التي اخترقت ذلك العقل وحاولت تغيير جيناته لاستهداف مصر وإضعافها والدخول بها إلي مرحلة الاهتزاز والتفكك.