محمد عبد اللطيف يكتب .. حكايات منسية ...الشيخ اسماعيل البردان رجل من زمن الفضائل


كان الصيف يلملم أيامه الأخيرة عام 1981 ، الأجواء السياسية ملبدة بالغيوم، وتقارير أمنية تحذر الرئيس أنور السادات من محاولات لاغتياله، لم يلتفت اليها ، فى تلك الأثناء، انعكست الأوضاع السياسية فى البلاد على أحوال المجتمع، لذا شهدت بلدتى صخباً، يصعب السيطرة عليه، الجماعات الاسلامية تمرح يميناً ويساراً على اتساع القرية،بدأوا كدعاة،يلقون الدروس الوعظية عقب صلاة العشاء بمسجد الشيخ قوطة عبدالله على أطراف ناحية الدندراوية، وسرعان ما تكاثروا مثل الفطريات فى جسد المجتمع ، اذداد عددهم عبر استقطاب الصبية والشباب، راحوا يغرسون خطاب التمرد على قيم المجتمع وثقافته وتقاليده السائدة فى القرى، لكنهم اصطدموا بحائط صلب، العائلات بنفوذها والأسر العريقة بتأثيرها .
لم يكن بمقدور أحد مهما بلغت مهارته، تحديد هوية التنظيمات والجماعات التى تاه شكلها الظاهرى، رغم اختلاف مناهجهم الفكرية، وتنوع مسمياته " الاخوان ـ الجماعة الاسلامية ـ السلفية الجهادية ـ السلفية المدخلية ـ التكفير والهجرة ...الخ "، كان المجتمع يصنفهم جميعاً بالـ "سُنية "، ليس فى بلدتى فقط ، ولا أبالغ ان قلت الشعب المصرى كله، فى قراه ومدنه الصغيرة والكبيرة.
كانوا يتمتعون بدعم سياسى من أعلى مستوى فى الدولة، الرئيس السادات نفسه، هو الذى أخرجهم من القمقم وأطلقهم فى البرية، يمرحون ويعيثون فى الأرض فساداً،أخرج الاخوان من السجون، وأعطى تعليمات بتأسيس الجماعة الاسلامية، كظهير شعبى له فى مواجهة الناصريين وقوى اليسار ونخبة المثقفين الرافضين لسياساته، وبالفعل أوكل المهمة لمحمد اسماعيل عثمان محافظ أسيوط، والعميد، وقتها، عبدالمنعم عوض وكيل فرع أمن الدولة بأسيوط ، حظيت الجماعة الاسلامية برعاية رسمية ، فضلاً عن التعليمات لأجهزة الشرطة بعدم المضايقة وفتح المجال أمام أنشطتهم، وتأسست النواة الأولى لها بجامعة أسيوط .
تزامن تأسيس الجماعة الاسلامية وتناميها،مع بزوغ نجم الشيخ اسماعيل البردان قائداً مجتمعياً وزعيماً شعبياً، خلفاً للشيخ قوطة عبدالله بعد 40 يوماً من رحيله ، جاء الرجل فى زمن اختلت فيه كل الموازين، زمن انقلب فيه المجتمع رأساً على عقب، سياسات الانفتاح العشوائى،اختلال منظومة القيم بعد السفر لدول الخليج، ثم تبع ذلك زيارة السادات الى القدس، اتفاقية كامب ديفيد.
أمام كل هذه المتغيرات الدراماتيكية التى انعكست بطبيعة الحال على قريتنا ، يصبح السؤال المنطقى، ما الذى يفعله رجل قادم من زمن الأساطير الى زمن اختلت فيه الموازين ؟
الناس لم تنس قوطة عبدالله صاحب التاريخ، هم يريدونه قوطة عبدالله ، وهو يريد أن يكون ذاته لا أحد غيره ،فقفز على كل محاولات تعويقه من هنا أو هناك، راح يؤثر فى الواقع بمفرداته الايجابية، بدأ خطوات لم الشمل بمحيطه متجاوزاً الضغائن الصغيرة، اذا كانت تمسه على المستوى الشخصى، دون أن يتهاون فى أى شأن يتعلق بمجتمعه، مهما كان الثمن الذى سيدفعه،غالياً كان أو رخيصاً ، لذا كان له تأثير فى مسيرة اصلاح ما أفسدته تراكمات الفتنة .
آل اليه ارث ذاخر بالفضائل والعزة، سلمه اياه الشيخ على جودة فى حياته، وتاريخ حافل بالأمجاد، تركه له الشيخ قوطة عبالله بعد رحيله، الأول من أخواله ، داعماً ومسانداً له فى كل المواقف ، كان يقول له : "افعل ما تراه وأنا ظهرك"، والثانى ابن عمه أورثه خبرة التعامل مع الأذمات، فصار وريث الأسطورتين،حمل الأمانة رغم أنها ثقيلة، وحافظ على الارث رغم أنه مهمة صعبة، فزاع صيته وبلغ الآفاق ، وأصبح واحداً من أبرز قادة المجتمع فى عصره، وزعيماً شعبياً دخل التاريخ من باب العزة والفخار، فلا يمكن لأحد مهما كان مجافياً للحقيقة ،أن يتحدث عن تاريخ بلدتنا، دون أن يضعه فى المكانة التى تليق به ، مكانة الزعماء الأوائل، فى مقدمة الصفوف وفى أول الصفحات.
عاصرت الرجل، بل أزعم أننى كنت قريباً جداً منه، وفى كل مرة أسافر الى بلدتى ، كنت أذهب معه الى منزله القديم لأحتسى معه القهوة، فقد كان من طقوسه اليومية احتساء فنجان قهوة بعد صلاة العصر،كان يصطحبنى من الـ "كولة" بعد خروجه من المسجد ، وكنت أقضى معه ساعات طويلة،ودود هو لا تعرف الضيق أو الملل حين تجالسه، وحين تسمع منه.
ارتبط الرجل بشخصيات أخرى من رموز العائلات، تقاسموا جميعاً عبء القفز على الموروثات البغيضة، تقاسموا تداعيات تنامى الجماعة الاسلامية فى بلدتنا ومخاطرها المستقبلية، ويبدو أن الهموم المشتركة بينهم، كانت دافعاً لتنمية العلاقة بالصداقة، فكان أبرز أشكالها التى ربطت بين الشيخ اسماعيل البردان والشيخ ابراهيم محمد حسن، وقد رأيتهما كثيراً أثناء جلسات الكبار، وسمعت عنهما أكثر مما رأيت، كان الشيخ ابراهيم يتمتع برجاحة العقل والقدرة على احتواء الأزمات فى مهدها قبل تفاقمها، ما جعله يلقى قبولاً واحتراماً من البلدة على اتساعها وتنوع انتماءات عائلاتها، لكن فى المقابل كان غالبية المطلوبين من الجماعة لأجهزة الأمن من الدندراوية والمداكير والسنابسة،ما ضاعف من حجم المسئولية المجتمعية عليهما سوياً، وكانت المخاوف تكمن فى ممارسة الضغوط على الأسر التى هرب أبناءها ، فقد كان الشغل الشاغل للشيخ اسماعيلعدم اهانة النساء، بالضبط مثل الشيخ ابراهيم ، فذهاب امرأة الى النقطة لحين قيام ابنها بتسليم نفسه يجعلهما فى حالة الغليان، ولأن الشئ بالشئ يذكر، ذات مرة اصطدم الشيخ اسماعيل البردان، بضابط يدعى عبدالرحمن، ذهب بنفسه ممتطياً حصانه الى محمد بخيت، مطلوب فى النقطة للتحقيق معه فى شكوى مشاجرة ، ولما كان المطلوب غير موجوداً بالمنزل، أراد أن يصطحب أمه المسنة، وعندما علم الشيخ اسماعيل بتصرف رئيس النقطة، ذهب ولحق به عدد هائل من الشباب، ومنع محاولة اصطحاب السيدة المسنة وجرجرتها بالطريقة التى أرادها الضابط كوسيلة ضغط، حدثت مواجهة بينهما، لا أريد الخوض فى تفاصيلها، لكنها كانت حديث البلدة عدة شهور، وعندما تصاعدت الأمور، انتصرت مديرية الأمن للشيخ اسماعيل، باعتباره ممثل قوى للسلطة الشعبية، وبدأ فصل جديد من التهدئة، للابقاء على الضابط فى مكانه ،لكنه قام بتصعيد موقفه رافضاً المصالحة، رغم قدوم أهل الضابط من مركز أبوتشت ونواب الدائرة وتدخل بعض وجهاء البلدة، لكن تم نقل الضابط، ومن يومها ترسخت قاعدة حل المشكلات المعتادة بين الأهالى فى الريف بمعرفة زعماء العائلات، بمعنى،احالتها من النقطة اليهم قبل التصرف فيها ، كما وضع مع زعماء البلدة ميثاق شرف فى صورة قانون عرفى، للقضاء على أى مشكلة بين عائلتين، بتغريم الطرف المخطئ غرامتين، احداهما مالية ، والثانية تسليم سلاح للشرطة ، كنوع من التأديب القاسى ، بما يضمن عدم تكرار الحماقات التى تهدد استقرار البلدة، أبرز الذين اتفقوا على القانون غير المكتوب الشيخ ابراهيم محمد حسن، الشيخ محمود ابراهيم السنبسي، الشيخ عبدالراضى عزام ، الشيخ محمود زكى بهيج ، الشيخ صدفى على مهران ، الشيخ رسلان سلام .
فى بدايات خريف 1981 زار مسجد الشيخ قوطة عبدالله الذى أطلقوا عليه مسجد التوحيد ، قيادات الحماعة الاسلامية ومؤسسيها فى أسيوط ، ناجح ابراهيم عبدالله الذى وافق فيما بعد على مبادرة نبذ العنف ولم يرتد عنها ، وحلمى عبدالمغيث ، على الشريف ، عاصم عبد الماجد ، محمد أحمد شوقى الاسلامبولى وشقيقه خالد الاسلامبولى "قاتل الرئيس السادات"، كان يقيم مع شقيقه وأسرته فى قرية الدرب بجوار شركة سكر نجع حمادى،كان سبب الزيارة المعلن، كما جرى الترويج لها ، تعرف قيادات الجماعة على الكم الهائل من أبناء البلدة ،الذين تم ضمهم، من دون علمهم بأهداف التنظيم ومصادر تمويله، ودون علمهم بمخططات اغتيال الرئيس السادات ،ومن دون دراية بحجم المبالغ التى افتتحوا بها مشروعات تجارية، لعل أبرزها تجارة الحديد والأسمنت ، فقد كان الكم الهائل من الشباب وحديثى السن ، يذهبون للصلاة وسماع الدروس باعتبارها تدين، لكن كانت تجرى عملية فرز وانتقاء لبعض الصبية، تعرضوا لغسيل أدمغة، اقتادوهم من القناعة بالتدين الى التطرف، هؤلاء اصطدموا بأهاليهم واتهموهم بالكفر، وكانوا يرفضون مجالستهم على الطعام.
فى تلك الأثناء كان يتردد على المسجد الرائد محمد خالد ضابط النقطة ،للصلاة وسماع خطبة الجمعة والدروس اليومية بعد صلاة العشاء ، وكان يستقبل قياداتهم كثيراً بمكتبه، الى الحد الذى تصوروا فيه ،أنهم بدلاء عن القيادات الشعبية والمجتمعية، لكنهم لا يعلمون أن قدومه الى النقطة ، لأجل هدف محدد هو رصد عناصر التنظيم الذى تمدد بصورة لافتة للانتباه .
ذات يوم ذهبت مع أحد الطيبين الأنقياء، ممن كان الأمر بالنسبة لهم لا يخرج عن كونه التزام وتدين وسماع الوعظ، الى نقطة الشرطة للسهر مع الرائد محمد خالد، واستقبلنا كما لوكنا من أهل السلطة، تقديم المشروبات،وخصنى بالترحاب رغم أننى لم أتردد على المسجد المجاور لمنزلنا سوى مرات معدودة، كان عمرى وقتها 18 سنة ،ولم أكن أعلم أنه دون اسمى ضمن الجماعة بعد "المشاريب" الينسون وعصير الليمون .
يوم زيارة مؤسسى الجماعة وأمراءها ـ كانوا يمنحون كبيرهم لقب "أمير" ـ جاءت حشود الشرطة وعدد من السيارات حاملات جنود قوات الأمن ،وعدد من الرتب المتدرجة، وقتها، ظهرت بوادر انتهاء شهر العسل بين النظام الحاكم والجماعة الاسلامية، طوقت الشرطة المكان بعد صلاة العشاء، طلب مدير الأمن من الشيخ اسماعيل البردان مساعدته لفض حشود الجماعة داخل وخارج المسجد، تحمل وحده عبء أخراجهم، وعندما تعالت أصواتهم بالرفض، حذرهم بأنه هو الذى سيتعامل معهم وسيخرجهم من المسجد بالقوة دون حاجة الى الأمن، استجابوا مُكرهين، لأنهم يعلمون أنه قادر على تنفيذ ما يقول، كان المشهد يشى بأن شيئاً ما سوف يحدث ، لكن ادراك تلك الجماعات لمكانته بين ذويه، ولدى سلطات الدولة ، جعلهم فى حالة انهيار ، استجابوا رغم كراهيتهم له ، فقد دأبوا على التحريض ضده، لكنه كان عصياً على الانكسار فى وجه صبية مارقون .
بعد انصراف الجماعة من المسجد بأسابيع قليلة ، وتحديداً ليلة 3 سبتمبر 1981 صدر القرار الجمهورى باعتقال 1536 على مستوى الجمهورية، منهم 38 من قريتنا وحدها،فى أعقاب ذلك اختفت بعض الوجوه ، وبقيت وجوه أخرى تجتمع ليلاً للبحث في كيفية الاستمرار، الى أن جاء حادث المنصة فى السادس من أكتوبر، كان القاتل خالد الاسلامبولى أحد زوار مسجد بلدتى قبلها بعدة أسابيع، حيث تم اعتقال شقيقه محمد الاسلامبولى.
فى اليوم التالى مباشرة بدأت أكبر حملة اعتقالات شهدتها مصر، وشملت عدداً كبيراً، من قرية "الوقف"، ولعلنى أذيع سراً لا يعرفه أحد سواى وأسرتى وعدد قليل جداً جداً ، وهو أننى كنت مطلوباً ، واسمى مع ابن عمى محمود عبدالراضى، وكنا سوياً فى الثانوية العامة،لأن الضابط محمد خالد دون اسمي فى كشف المطلوبين بعد زيارته بصحبة أستاذى الطيب، الذى قال للضابط "أرشدناه للصلاح وطريق الهداية "، وشاءت الأقدار أن اسمى الثلاثى يطابق اسم أستاذى فى المدرسة الأستاذ محمد عبداللطيف وشهرته " المسيو" وكان ثلاثة من أبناء عمومته ، صدرت بشأنهم قرارات اعتقال، وذهب الخفير الذى أرشد قوات الأمن على منازل المطلوبين الى بيوت عائلة آل زيدان ، قبل أن يذهبوا الى كرم هنب حيث أقيم، فتم تسديد الاسم بالقبض على الاسم المشابه،وعندما وصلوا " كرم هنب" ألقوا القبض على ابن عمى، الذى زرته بعد ذلك فى سجن المنيا .
اليوم التالى للواقعة طلب منى بعض أقاربى لوالدتى، الاختفاء من البلدة، وتحويل أوراقى الى مدرسة ابن خلدون بحلمية الزيتون فى القاهرة، وقيل لى اذهب الى شقة مدير المدرسة بعمارة الشيخ حسن ابراهيم، والشيخ حسن "هيديله" طلب التحويل وهو ما جرى .
فى أعقاب ما جرى تعرض الشيخ اسماعيل البردان ومعه الشيخ ابراهيم محمد حسن لحملة هجوم فى محيط كل منهما ، والزعم بأنهما وراء حملة الاعتقالات التى شملت أعداداً كبيرة ، هذا ظاهر الهجوم، أما باطنه ، فى ظنى ، فهو الغضب منهما، لأنهما خسب ما ترسخ فى الأذهان، لديهما القدرة على الغاء قرارات الاعتقال ، لكن أحداً من هؤلاء لا يعلم ، أن حجم كراهية قيادات الجماعة الاسلامية لهما وراء ترويج الشائعات ضدهما .
من المفارقات العجيبة أن الشيخ اسماعيل الذى عرف بأنه عدو الارهابيين ، يتم القبض عليه أثناء الانتخابات النيابية عام 1995 لمدة 12 ساعة ،واحتجازه مع 3 عمد من رموز محافظة قنا ، لأنه يساند بقوة المرشح اللواء عبدالمنعم عوض عن دائرة دشنا، وهو ذاته اللواء الذى كلف من الرئيس السادات بالاشراف على تأسيس الجماعة الاسلامية بأسيوط .
ذات يوم من أيام عام 2002 كنت فى مأمورية عمل بمدينة دهب جنوب سيناء ، أغلقت هاتفى ورحت أتأمل الأضواء الخافتة على الجانب الآخر من الشاطئ ، هناك فى المدى البعيد حيث تبوك بالمملكة العربية السعودية ، وفى مساء اليوم التالى ، تلقيت مكالمة من والدتى ، كانت عبارة عن عتاب مشحون بالغضب، لعدم سفرى للعزاء فى خالى الشيخ اسماعيل ، سألتها ..متى كانت الوفاة قالت لى، انهاردة التالت، وعندما عدت الى القاهرة ، ترددت كثيرا فى كتابة رثاء له بالصحيفة التى أعمل بها ، فقد كان السؤال الذى يطاردنى ،كيف أعزى الأسرة وأنا فى حاجة لمن يعزينى ، على أى حال نشرت العزاء ، ثم سافرت الى البلدة مع ولديه صابر ومحمود لزيارة قبره ، دون أن أعزى أحد .... رحل الرجل الذى كان ينبرى كالسيف لنصرة ذويه .