خط أحمر
الجمعة، 25 أبريل 2025 05:57 صـ
خط أحمر

صوت ينور بالحقيقة

رئيس مجلس الإدارة محمد موسىنائب رئيس مجلس الإدرةأميرة عبيد

رئيس مجلس الإدارة محمد موسىنائب رئيس مجلس الإدرةأميرة عبيد

مقالات

محمد عبد اللطيف يكتب .. حكايات منسية ..الشيخ على جودة ..أسطورة من الزمن الجميل

خط أحمر

عندما أرتاد أضرحة الصالحين ومقامات أولياء الله، أصلى، وعندما أزور المقابر، أطوى أنين الحاضر بحنين الماضى، فأروى ظمأى بالذكريات ، وأهيم عشقاً فى الحكايات .

أثناء حرب الجيش المصرى باليمن فى ستينيات القرن الماضى، اجرت اذاعة صوت العرب لقاءات مع جنودنا على جبهات المعارك الدائرة هناك، من بين الذين تحدثوا عبر أثير الاذاعة، الجندى مقاتل شعبان السايح ،سأله المذيع : تحب تقول ايه ؟ .. قال : بلغوا سلامى الى الشيخ على جودة، وطمنوه ، أننا بخير وانشاءالله هنرجع البلد منصورين .

هذه رسالة ابن بلدتى التى بعث بها من اليمن ، بجوار باب المندب جنوب غرب القارة الأسيوية، سرى صدى الرسالة القادمة عبر أثير الاذاعة فى أرجاء القرية، كما تسرى النار فى الهشيم، راح الناس يتناقلونها بزهو، ينم عن الارتياح والاطمئنان على جيشنا الذى يحارب بعيداً عن أرض الوطن،هكذا سمعت القصة من رواة كثر، بعد حدوثها بسنوات عدة، سمعتها عندما كنت طفلاً ،وسمعتها حينما كنت صبياً، وفى الحالتين لم أكن قادراً على تفسير معانيها، الا أن شغفى لفهم دلالاتها، كان يحرضنى دائماً على الغوص فى أعماقها،

وعندما زحفت سنوات العمر نحو بواكير الشباب ،سألت عن معنى ومغزى الرسالة، فى محاولة لفهم دلالات اختيار الشيخ على جودة ، ليطمئنه على نفسه وعلى الجيش .

وذات يوم التقيت شعبان السايح ،وكان الى جانب مهنته ، مولعاً بتدريب الحمير على خطوات الخيل، سألته عن الرسالة التى بعث بها عبر أثير اذاعة صوت العرب، سرح الرجل وقتاً طويلاً ،وكأنه يستدعى من الذاكرة مشاهد الحرب، التى تجسد تأثيرها فى أحد أبناء بلدتى من "الحمدات "، شارك فيها، ثم عاد بدون قدرة على التعايش مع المجتمع .

مرت لحظة، استرد خلالها عقل ذهب عنه ، قال لى : الكلام طلع وحده كده ، وأنا كنت أبعت الجوابات علي البلد باسمه،علشان توصل، " أومال "، مش هو برده كبيرنا وسندنا والباشا بتاع البلد.

ولأننى أؤمن بأن الحديث عن الصدفة فى تاريخ الزعامات الشعبية ،عبث ، لذا أجدنى دائم البحث عن الأسباب والظروف التى صنعت الأحداث الكبيرة والصغيرة، والشخوص المؤثرة فيها، لأن الغالبية يرون فيما يصنعون ، أفعالاً عادية لا ترقى الى مستوى وضعها فى بوتقة الحراك الوطنى ، لكن قليلون هؤلاء الذين يعرفون أنهم يشاركون فى صياغة المناخ العام بأطروحاته واشكالياته ، ولا يمكننى اغفال رسالة شعبان السايح من السياق ، باعتبارها انعكاساً للواقع ، وتتويجاً لحقائق، مفادها أن ثورة يوليو وانجازاتها،السياسية والاقتصادية، وجدت شخصيات تدعم انطلاق توجهاتها وأحلام من صنعوها، كتروس يدورون فى فلكها بالمدن والريف والنجوع والكفور ، وكان الشيخ على جودة أبرز الوجوه التى تليق بأول نظام جمهوري فى مصر باعتباره قائد مجتمعى يمثل السلطة الشعبية فى أبهى صورها وقت أن كانت السلطة الشعبية ،العصا التى يتكئ عليها نظام الخكم فى مواجهة قوى الظلام لما تملكه من رصيد عائلى .

ففى بواكير شبابه ،ألقت به الأقدار فوق الأشواك، وحيداً بين الأنواء،وقيل له لملم كبرياءاً هنا نثروه، واضمد جرحاً هنا بنصل طعنوه ، وقتها لم تكن لديه رفاهية النأى بالنفس، أو ترف الخيارات ،اما أن يكون أولا يكون، لكنه قرر أن يصنع لنفسه خياراً وحيداً، اما أن يكون، أو يكون ، فكان،ولما كان، صار عشباً أخضراً فوق دفاتر الأيام.

فى هذا السياق يجب التأكيد على أن السياسة العامة للدولة المركزية،تلقى بظلالها على المجتمع ،بتنوع فئاته وشرائحه، تؤثر فيه ويتأثر بها، كما أن السلطة ذاتها تتأثر بما يحدث داخل القرى والمدن المتناثرة ، لتشكل رؤيتها العامة، فأثناء الحرب فى اليمن كانت مصر تموج بأحداث، غيرت مسارات السياسة الدولية، الوحدة مع سوريا فى أعقاب حرب 1956 على خلفية تأميم قناة السويس، ثم انهيار الوحدة عام 1961،اعلان مجموعة دول عدم الانحياز والحياد الايجابى ، كقوة مؤثرة فى مواجهة قطبى العالم " الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية " ، مساندة حركات التحرر الوطنى من اليمن الى الجزائر، ومن ليبيا الى دول افريقيا، حيث كانت ثورة يوليو ملهمة للشعوب التى تئن من الاستعمار، وكانت ملهمةأيضاً لزعماء وقادة المجتمع على امتداد نهر النيل والدلتا ،تأثروا بها، وأثروا فى تحقيق أهدافها، فالحرب فى اليمن لم تكن مغامرة،بقدر ما كانت لتحرير البلد من الرجعية،ومواجهة محاولات السيطرة على باب المندب لتأمين الملاحة عبر قناة السويس، وكان المناخ العام فى تلك الفترة ،يعكس فلسفته فى أعماق المجتمع بطوائفه وعائلاته وعصبياته فى شكلها الايجابى ،على اتساع الخريطة الجغرافية للبلاد من الوادى الى الدلتا .

عبر قراءاتى والغوص فى المرويات التاريخية ، أدركت المعنى الحقيقى للزعامة، وأدركت كيف يرتفع قدر هؤلاء الزعماء عندما تمتزج هيبة الكاريزما بالتواضع، فذوى القدر الرفيع ،لا يعرفون قدرهم، ولا يلتفتون لنظرة الآخرين ،وكان الشيخ على جودة نموزجاً يجسد المعنى الحقيقى للتواضع ، وهو من هو ، هو رجل ميسور الحال ، لكن ليس بالمال وحده يستطيع المرء أن ينال المكانة الرفيعة، فكم من أثرياء جاءوا الى الدنيا، مكثوا فيها وغادروها،من دون أن يشعر أحد بوجودهم، أويشعر أحد بغيابهم ، أما هو فظل سيرة عطرة،لأنه شخصية فريدة فى مكونها الشخصى، وفى تأثيرها، شخصية، ملأ ضوءها فضاءاتنا وقت أن كان الظلام بطلاً ،فصار مثل أبطال التراجيديا فى الأساطير الاغريقية القديمة،صار أيقونة ترفع هامات الرجال.

قبل عدة عقود حدثت الفتنة فى كثير من قرى محافظة قنا .. لا أحد يعرف على وجه الدقة ،من أين جاءت،أو كيف بدأت، أو لماذا نشأت ؟ ... لكنها حدثت ... تعددت الروايات المتداولة بشأنها، لكننى لا أميل لتصديقها جميعاً، ربما لأسباب ذاتية، منها قناعاتى، التى لا أحيد عنها، بأن ما يحدث فى المجتمعات المنكفئة على ذواتها، انعكاساً لصراعات سياسية ومصالح دولية، بداية من زرع الفتنة القبلية، وليس انتهاءاً بانتشار جماعات التطرف والارهاب فى بلادنا، وفى الحالتين " الارهاب والفتنة " ،كانت تجارة السلاح عنصراً رئيسياً، وقاسماً مشتركاً لـ "البلاوى " ، وهنا يبرز سؤال آخر . من أين يأتى السلاح ؟ ، وكيف يأتى ؟،لذا أقول لك، فتش عن المستفيد من انهيار المجتمع ،والمستفيد من تمزق نسيجه الداخلى، فى الماضى والحاضر،واذا توقفنا أمام تلك الفترة، يمكن التأكيد على حقائق لا يمكن القفز عليها ، مفادها أن جماعة الاخوان راحت تنتشر فى أحشاء المجتمع كالورم السرطانى، فضلاً عن أن حسن البنا كان يجوب أقاليم مصر من الدلتا الى الصعيد ومن مدن القناة الى الاسكندرية، لنشر أفكاره الظلامية ، وقتها كان الانجليز يحتلون البلاد ويسيطرون على مقدرات الأمور فيها، وكانت لعبة السياسة ، لعبة مشبوهة ، تدور فى اطار الوجاهة دون سواها،الولاء للملك أو للملك والانجليز معاً، وهذا يعنى فى تقديرى أن الظروف التاريخية للبلاد،كانت مهيئة بطبيعة الحال للظرف الذاتي فى المجتمعات النائية لأن القصر والبرلمان والأحزاب فى واد وبلادنا فى الصعيد الجوانى فى واد آخر ... على أى حال انتقلت الينا عدوى الأمراض المجتمعية البغيضة ، اشتعلت نيران الفتنة ، وخرجت الأحقاد من مقابر الضمائر الميتة،ووجدت لها براحاً فى أحراش النفوس الموبوءة، فكان ما كان .

كان مجلس الشيخ على جودة بمثابة قصر الحكم، يتواجد فيه الوجهاء ويرتاده ممثلى البلاد المجاورة ، وكان يجسد بجلاء مفهوم الدولة العميقة ،المساندة لسلطة الدولة ومؤسساتها فى كل معاركها من البناء الى الحروب، ولأن الزعماء الذين يتمتعون بكاريزما لا يضيرهم ظهور نجوم الى جوارهم، كان الشيخ على ينتمى الى هذا الصنف من الزعماء ، يقدم بعض الوجوه ممن رأى فيهم القدرة على قيادة المجتمع فى وجوده ومن بعده، ولعله الوحيد من الرموز التاريخيين فى قرى الصعيد ،الذى صنع صف ثانى من القيادات المجتمعية المبهرة، كانوا يحضرون مجلسه ، فتعلموا منه خبرة التعاطى مع الأزمات الناتجة عن الصراعات السياسية والانتخابات، والمشكلات القبلية والعائلية وكان يرسلهم لحل المشكلات الداخلية . كان يرتاد مجلسه رموز القبائل وعمد القري المتناثرة شرق النيل وغربه على امتداد شمال المحافظة " قنا ـ دشنا ـ نجع حمادى ـ أبو تشت " وكبار العائلات من البلدة ومن خارجها، وذوى المكانة الاجتماعية المرموقة، مثل الشيخ محمد اسماعيل عقارب وكان نبيلاً ووجيها فى قومه، والشيخ محمد حسين الحوارم، وهنا سأتوقف أمام مظهرهم الذى كان لافتاً للانتباه ، ثلاثتهم كانوا يرتدون ملابس غير التى يرتديها كبار القرية،يطلقون عليها " فلت"، أو "كاكولة " ، وهى تشبه ملابس باشوات واقطاعيى ما قبل ثورة يوليو التى نراها فى أفلام السينما ، يلفون حزام من الحرير على وسط الجلباب الداخلى، وكان من رموز الحضور الشيخ قوطة أبو محمد والحاج على ابراهيم، ظلت هذه الجلسة بوهجها وبريقها ،الى أن رحلوا جميعاً فى فترات متقاربة من نهايات السبعينات وبداية الثمانينات ، انقطع عنها الشيخ محمد حسين طويلاً بعد أن تعرض لحادث سير فى القاهرة، أدى الى كسور مضاعفة بساقيه ، حين ذهب لعلاج شقيقه حسنى .

عاصرت جزءاً من تاريخ، الأسطورة ،وهذا الجزء يمثل مراحل عمرى المختلفة، طفولتى وصباى وبدايات عنفوان الشباب، لكنه لا يرقى لمعرفة كل شئ عن رجل بحجمه ، رجل أجبر التاريخ على أن يتوقف عنده طويلاً ، فقد صنع ما لا يستطيع أحد أن يصنع ، والواقع على الأرض لا يكذب ولا يتجمل ، المدرسة الثانوية ، الجمعية الزراعية ،الطريق الى الجبانة.

ذات ليلة صيفية، كان القمر يكسو الفضاء بالضوء، يعانق أسطح البيوت والحقول المتناثرة ، فى تلك الليلة البديعة بقمرها وحكاياتها، روى لى من كنت أجد الارتياح فى حضرته،حسن على حسن الخولى، وكانت جلستنا تضم ، صلاح محمد يوسف وعبدالقوى على الخولى، رحت أداعب ذاكرته ،كى أنهل من شلالها العذب، سألته عن الشيخ على جودة ، بصفته الأقرب عائليا وروحيا للشيخ قوطة عبد الله ، قال لى أن بعض الناس كانت تظن بوجود "حزازيات "بين الشيخ على جودة والشيخ قوطة ، قلت : كنت أسمع كثيرا عنها .. ايه حكايتها؟.

قال : اللى بيقولوا الكلام ده، ميعرفوش حاجة، و"الناس دى هى اللى تعبتهم همة الاتنين "، ثم واصل،(( كل حاجة تخص الدندراوية جواها أو براها مع البدنات التانية ، كان يتشاوروا فيها مع بعض، من غير ما حد يعلم، ومرات كتيرة كان الشيخ قوطة يروح للشيخ على بيته القديم اللى قدام بيت مغربى أبو الأعرج فى عز الليل، بعد الرجل ما تتقطع " يقصد بعد أن يختفى المارة من الشوارع" ، يكون معاه ابراهيم الزواغ ،اللى كان يستناه برة لحد ميخلصوا قعدتهم ،وممكن يقعدوا لغاية الفجر لو الموضوع كبير، وتانى يوم، كان أى واحد فيهم يتكلم باسم "المطرح" مع النقطة أو مأمور المركز أو حكمدار المديرية،أو مع كبار البدنات فى البلد والبلاد التانية، أو النواب لما ييجو، فكانوا همة اللى يختاروا عضو الاتحاد الاشتراكى، ورئاسة الجمعية الزراعية واللى يمثلونا بالمجالس المحلية وكان سر قوتهم رضا الناس عنهم، ومفيش حاجة تتم الا لما يوافق الشيخ على ،مش ذى اليومين دول محدش عارف مين الكبير ، على أبو جودة جات عليه أوقات ، لقى نفسه مفيش غيره يشيل الشيلة التقيلة، وقتها كان الشيخ محمد أبو اسماعيل أبو عقارب ياخدها من مصر على قنا، ومن قنا على مصر رايح جاى، يجيب المستشارين والمحامين، وحكاوى كبيرة فيها قضايا ومعتقلات ،والشيخ على خطوته واسعة ومعارفه تقيلة وفى كل حتة ، وليلاه "لولاه" كانت الناس راحت فين )).

فى منتصف تسعينات القرن الماضى كنت أتردد كثيراً على مقهى عم ابراهيم راوى كردغلى ، وهذا المقهى يقع أسفل عمارته المواجهة لمستشفى الحلمية العسكرى، وكان عم ابراهيم رجلاً ودوداً ومحباً لأبناء بلدته، يقابل الصغير والكبير بترحاب وحميمية شديدة، وهو شقيق الحاج فؤاد راوى كردغلى أحد الوجهاء العصاميين فى بلدتنا ، فى تلك الأونة كنت أقضى وقتاً طويلاً فى الجلوس مع الأستاذ أحمد الصاوى محمد ،أو الشيخ أحمد الصاوى كما يناديه الناس، الذى ترك البلدة أوائل السبعينات للعيش بالقاهرة مع أسرته ،والأستاذ الصاوى من القلائل جداً،ان لم يكن الوحيد، الذى يمتلك جاذبية وسحر فى الحديث، فهو صندوق الذكريات الذى يحوى أصدق لحظات التاريخ وأكثرها عمقاً، وذات يوم ضمت جلسته التى تشبه الصالون الثقافى، بعض مريديه وأنا منهم" أبوبكر على الخولى،نصر الدين حسين الكريتى ،عبده الدكر، الخولى على أحمد ، عبدالحيد أبو دومة "، دار الحديث بيننا عن الشخصيات فى بلدتنا، وكنت حريصاً حين أجلس معه ،على أن أتسلح بفضيلة التساؤل، طلبت منه فى تلك الجلسة ، أن يصف كل شخصية من رمو بلدتنا بعبارة واحدة، و ذكرت له اسم الشيخ على جودة ، حرفياً قال : "الرُكن الرَكين والحصن الحصين "وابحث عن المعنى فى المعجم، وبالفعل بحثت!!.

فى أوائل الثمانينات رحل الشيخ على جودة محاطا بوداع مهيب يليق به وبما صنعه لمجتمعه ، كان مشهد تشييع جنازته يعبر بجلاء مكانته ، رحل لكن سيرته أصبحت أغنية نرددها لنبدد وحشة زماننا .

محمد عبد اللطيف حكايات منسية الشيخ على جودة أسطورة الزمن الجميل
قضية رأي عامswifty
بنك مصر
بنك القاهرة