محمد عبد اللطيف يكتب ..الشيخ قوطة عبد الله..حدوتة مصرية


نحن نعيش فى زمن اختلطت فيه الأشياء ، صار الـ "فيسبوك" مكلمة للحديث عن الشخصيات التاريخية ، من دون ضابط أو رابط ، ومن دون معرفة عميقة بتاريخ تلك الشخصيات ، التى أثرت تأثيرا عميقا فى المجتمع ،هؤلاء ان كنت لا تعلمون ، شكلوا ملامح عصرهم ، وسطروا دستور القيم وجسدوا المعنى الحقيقى للمسئولية الوطنية .
قبل أيام قليلة، لفت نظرى بوست على احدى صفحات الـ "فيسبوك" يتحدث بصورة عابرة عن شخصية لم تكن عابرة ، شخصية استثنائية حفرت اسمها فى صخرة التاريخ ، بالعرق والكفاح، انه الشيخ قوطة عبدالله، الذى بزغ نجمه زعيماً وقيادة شعبية بارزة،أفرزتها الظروف المجتمعية والسياسية فى فترة الخمسينات والستينات، وحتى وفاته فى منتصف سبعينات القرن الماضى ( 1976).
الغريب أن كاتب الـ "بوست" اختزل تاريخ الرجل فى بناء مسجد يحمل اسمه مع نشر صورته ، وحظيت التذكرة به على تعليقات تدعو له بالرحمة ... الأمر الذى جعلنى أتساءل ، هل الذى كتب ، لم يكلف خاطره للبحث فى سيرته ؟ ...ألم يفتش فى ذاكرة الذين عاصروه؟ فالتاريخ محفور خلف تجاعيد وجوه العجائز وذاكرة الشيوخ التى لم يصبها الوهن والعطن ، يروونها مثل الأساطير القديمة .... لكن سرعان ما قفزت الاجابة الى ذهنى فى شكل تصورات ،أقنعت نفسى بها ، أو هكذا ظننت .
ربما كُتب البوست على سبيل العاطفة ، وربما... وربما ..على أى حال ، الحديث عنه يحمل رسائل مهمة الى جيل لا يعرفون الرموز، لكن ـ ملاحظتى ـ لا بد أن يكون المتن لائقا بحجم الرجال ومكانتهم ،لا أن يُختزل تاريخهم فى عبارات شاردة، لا ترقى لمستوى الحديث عن القامات التى أثرت فى التاريخ الاجتماعى ، ان لم تكن صانعة له .
ان سيرته ترجمة لحقب تاريخية مهمة ، كانت مصر، وقتها ، تسير بخطوات واثقة وارادة قوية للصعود ، كدولة ناهضة فى أعقاب ثورة 23 يوليو 1952 ،كانت تتأهب للخروج من سطوة الباشوات واستبداد السلطة وفساد الأحزاب، بأن منحت الفرصة للقوى الاجتماعية التى تشكل عصب الاستقرار بطول البلاد وعرضها، من الصعيد الجوانى الى الدلتا، ومن القاهرة الى الاسكندرية، ومن الشرقية الى الغربية وقتها بدأت تتشكل ،بصورة تلقائية ، القوى الفاعلة والمؤثرة ،التى تليق بالجمهورية الأولى، حيث المد الثورى، البناء والتعمير ، السد العالى ، المصانع ، تأميم قناة السويس ، المدارس ومجانية التعليم ،اشراك البسطاء فى الحياة العامة، انشاء الجمعيات الزراعية ،القضاء على الموروثات التى زرعت بفعل فاعل ، فكان من نتائجها ، الفرقة والتعصب القبلى والثأر، واتساع الفجوة بين أبناء المجتمع الواحد .
فى تلك السنوات البعيدة كانت مصر تذخر بالشخصيات الاستثنائية على كافة المستويات ، حيث ظهرت نجوم فى الفنون والآداب والسياسة والفكر، أثروا الحياة العامة ، وكان من الطبيعى أن يمتد الحراك الايجابى الى عمق المجتمع لظهور قادة قادرون على تحمل المسئولية المجتمعية، والتعاطى مع المد الثورى فى كافة مناح الحياة ، حيث كان المناخ العام صانعا للزعامات، وسياسة الدولة مهيئة لافراز القيادات الشعبية التى تبوأت مكانها بجدارة.
ينتمى الشيخ قوطة الى الصف الأول من الزعماء التاريخيين فى محافظة قنا،حيث تم اختياره من قبل الدولة كأبرز زعماء القبائل فى مركز دشنا ،ممثلا لقري غرب النيل فى حل النزاعات الكبيرة ، وهو مجلس يوازى " لجنة المصالحات على مستوى المحافظة فى زماننا هذا ".
لذا شهدت "مندرته" كواليس أخطر الأزمات السياسية والمجتمعية فى صعيد مصر ، فقد كانت قبلة يرتادها ممثلو السلطة ابتداءاً من ضابط النقطة ومأمور المركز وقيادات مديرية الأمن ، وليس انتهاءاً بنواب مجلس الأمة ـ وقتها ـ والعمد والمشايخ وقادة الاتحاد الاشتراكى ومنظمة الشباب ، كان صانعاً للنجوم ومؤثرا فى الانتخابات ال الحد الذى وصف بأنه اذا قال فعل واذا تحدث سمعت له الدنيا ، رغم أنه لم يكن من الأثرياء، لكنه كان مستورا ،مكافحاً وعصامياً ،وكريماً الى الحد الذى كان يساير فيه أثرياء المركز ان لم يفقهم فى عطاءه..
كان مقر مجلسه يمثل علامة بارزة من معالم القرية، باعتباره أحد أهم الأمكنة فى البلدة ، حيث كان يرتاد مجلسه نخبة من الوجهاء وكبار العائلات ورموز القبائل، ونظار المدارس وذوى المكانة الاجتماعية المرموقة، اكتسب المكان هيبته من هيبة الرجل وشخصيته الكاريزمية.
كان المقر أشبه بـ " دار الحقانية" ،لم تكن هناك أزمة عصية على الحل ، حيث تجسدت براعته فى انها ء المشكلات وتأثيره على أطراف النزاعات ، أما الخلافات الأسرية فكان يناقشها داخل "مندرته" الخاصة حيث السقيفة المشهورة ، كان الرجل يتمتع بذكاء فطرى أهله لأن يكون فى الصدارة، أما الحكمة فقد اكتسبها من دروس الحياة .
عاصرت الرجل الأسطورة، وعاصرت أساطير أخرى سأفرد لها مساحات فى وقت لاحق ، مثل الشيخ على جودة وقاسم السباعى واسماعيل البردان وغيرهم .
كنت طفلاً لا أدرك الأشياء من حولى ولا أعرف عن الشيخ قوطة ، سوى أنه قريب أمى ، لكننى وأقرانى ، كنا لا نجرؤ على الاقتراب من المكان الذى يجلس فيه أو اللعب بجواره، وكنا نرى بعض الرجال والشباب يلقون بالسلام على الجالسين بوقار، لم يعد موجودا الآن ،حيث كانت الغالبية وقتها يعرفون معنى " العيب" واحترام الكبير ، كنا نشاهد بعض الشباب يفرون من أمامه كما تهرب الفئران من المصائد ، وعندما كنا نسأل ، كنا نعرف أنه لم يتهاون مع أحد فى آداء الخدمة العسكرية ، حيث كان يأتيه كشف المطلوبين من المركز أو باشارة عبر التليفون بمندرته ، لأنه يدرك بالفطرة أن الوطنية تضحية ، وأن البلد فى حاجة لأبناءها من الشباب فى وقت أن كانت "نكسة يونية 1967" ،تكسر هامات الرجال، وعندما رحل جمال عبدالناصر، شهدت بلدتنا مواكب النعوش الرمزية والرايات السوداء ،لعل أبرزها الراية المعلقة فى المكان الذى اعتاد الجلوس فيه ، وكأنه أراد أن يخبر الجميع بأن حزنه بلغ منتهاه ، وأن رحيل عبدالناصر هى لحظة الانكسار العظيم ، الى أن جاء الانتصار فى أكتوبر 1973، لكن سرعان ما تبدل حال الشعب كله ، داهمت سياسات الانفتاح حياتنا ، فانحدرت القيم ، وتوارت الأخلاق ، ولم يعد هناك عيب ،فداهمه المرض ، وبدأت رحلته مع العلاج ، من الذهاب الى القاهرة الى استدعاء الأطباء من القاهرة ، هزم المرض جسده، لكنه لم يستطع أن ينال من روحه ، ظل شامخاً عصيا على الانكسار، وع ذلك ظل السؤال يطارد أذهان الناس ..ما الذى دفع كل هذا الحزن الى روحه ليفتك بجسده؟.
وذات يوم من عام 1976 ، رحل الشيخ قوطة عبدالله، وقتها كست الكآبة الدروب وعم الحزن البيوت ، النساء اتشحن بالسواد ولطمن الخدود وتبارين فى انشاد العديد ، بكاه الرجال كما لم يبكون من قبل ، رحل ورحلت معه حكايات الأساطير
عندما رحل كنت أودع سنوات الطفولة وأقفز نحو بدايات الصبا، وقتها أدركت ما كان يحزنه ، وما جعل المرض يتسلل اليه ويطيل فى أعمار ذوى الجلود السميكة ، هو كان يحب الحياة ، ينهض النخوة فى النفوس ، لذا لم يكن غريبا أن يرحل وهو محاطا بكل هذا الحب.