خالد السيد يكتب: التحكيم في المنازعات المصرفية


مع تزايد المعاملات التجارية الدولية وما واكبها من تزايد أنواع العمليات والعقود المصرفية التي تعتمد أساسا على السرية والثقة والائتمان، أضحى التحكيم ذلك القضاء والوسيلة البديلة والفعالة لهذه التعاملات والقضاء الأصيل المفضل لأطراف التجارة الدولية ، لشعورهم بأنه وليد إرادتهم وتجاوبه مع مصالحهم وكذا للمزايا التي يتسم بها وانسجامه مع خصوصيات العمليات المصرفية وحفظ أسرار الطرفين فلا يطلع عليها سوى المحكمين المختارين لنظر النزاع ولأن العمليات المصرفية تعتبر جد حساسة نظرا لعلاقاتها بالاقتصاد الوطني وتأثيرها عليه سلبا أو إيجابيا، فإنها غالبا تظل خاضعة للتشريعات الداخلية ومراقبة القضاء الوطني، لذلك فهي تعتبر حسب البعض من المسائل المتعلقة بالنظام العام، والتي تتطلب عدم التساهل والتسامح بشأنها وبالمقابل أكدت التشريعات على مفهوم واسع في العلاقات التي يمكن أن تكون موضوعا للتحكيم ، تشمل العلاقات القانونية أو الأعمال التي تثبت لها الصفة التجارية بالمعنى الدقيق والتحكيم في العلاقات المالية المدنية على السواء، إذا كان كل منها له طابع اقتصادي ولا يخرج منه بالتالي سوى المنازعات التي تتعلق بخصومة مدنية غير مالية والتي لا يحول النظام العام دون النظر فيها. وبناء على ذلك نقول إن جميع المنازعات الناشئة بين العميل والمصرف بشأن عقود الاستثمار والمنازعات ذات الطابع التجاري ، ونقل التكنولوجيا وتلك المتعلقة بالتعهدات الحاصلة بين المصرف والعميل يجوز فيها التحكيم .
وبصدد الحديث عن التحكيم في العمليات المصرفية الدولية وخاصة خطابات الضمان الدولية ، نذكر ما قرره اتحاد بنوك مصر عام 1987 حيث كثرت الشكاوى من عدم قيام البنوك بدفع مبالغ خطابات الضمان الصادرة منها إلى المستفيدين، وكثيرا ما يضطر هؤلاء إلى الالتجاء إلى القضاء لنيل حقوقهم، ومن ناحية أخرى كان الآمر بإصدار الضمان يلجأ بدوره إلى القضاء طالبا تسييل مبلغ الخطاب. وكان ذلك يتم أحيانا بأوامر على العرائض تصدر دون حضور البنك ويفاجأ البنك بإعلان من المستفيد أن قاضيا يأمره بدفع قيمة الخطاب، وإعلان آخر في نفس الوقت من الآمر بالإصدار ينبه عليه بأنه طبقا لقرار قاضي آخر يتعين عليه ألا يدفع إلى المستفيد قيمة الخطاب، فأي الأمرين ينفذه البنك؟
وتزداد حدة المشكلة عندما يكون كل من العميل والمستفيد أحدهما يقيم في دولة أخرى مختلفة، إذ تقدم للبنك أحكام أو أوامر متضاربة من دول مختلفة وقد يقوم المستفيد باتخاذ إجراءين آخرين: أولهما الشكوى إلى البنك المركزي والثاني هو تهديد البنك بعدم قبول خطابات الضمان التي تصدر منه مستقبلا ودعوة السلطات وقف نشاطه. وقد عهد البنك المركزي المصري إلى اتحاد بنوك مصر بدراسة هذه المشاكل لوضع حلول لها. وقد شكلت لجنة باتحاد البنوك تتكون من مديره العام ومساعده ومستشار الاتحاد وبعض الأعضاء الآخرين. وقد وجدوا أن حل هذه المشاكل يستدعي وضع مجموعة أعراف محلية مستمدة من التقاليد المصرفية السليمة.
ومن ناحية أخرى فإن سبب حيرة البنوك وارتباك عملها هو القرارات القضائية المتضاربة، ولمنع هذا التضارب رأت اللجنة أن يتم نزع الاختصاص من يد المحاكم القضائية في هذا الموضوع وأن يعهد به إلى هيئات تحكيم تشكل لفض منازعات الأطراف مجتمعين وتصفي حقوقهم جميعا في وقت واحد دون أن يسمح لأحد منهم باستصدار قرارات بعيدا عن أعين المحكمين، ويتم الاتفاق على التحكيم في وثيقتين: الأولى هي طلب العميل لاستصدار خطاب الضمان فينص على أنه عند الخلاف يقبل الخضوع لاختصاص هيئة التحكيم، والثانية هي صك خطاب الضمان نفسه ويدرج فيه البنك على ظهره صيغة الأعراف المحلية التي أشرنا إليها ومعها صيغة شرط تحكيم مؤداه أن أي نزاع ينشأ بين المستفيد والعميل والبنك يخضع للتحكيم. وهذا الشرط يسحب الاختصاص من يد المحاكم القضائية ويكتب على وجه خطاب الضمان أنه خاضع للقواعد المبينة بظهره. فإذا لم يتعرض المستفيد على ذلك اعتبر قابلا لتطبيق قواعد الأعراف وشرط التحكيم.
وعند حصول نزاع بشأن خطاب الضمان يقوم الأطراف الثلاثة باختيار المحكم أو اختيار هيئة من ثلاثة محكمين، وقد يكون هذا التحكيم حرا غير خاضع لأية منظمة تحكيم وقد يكون تحكيما نظاميا أمام مركز أو هيئة معينة ويتضح مما تقدم أن التحكيم أضحى آلية أساسية من آليات تسوية المنازعات المصرفية بالنظر إلى انسجام مزاياه مع الأسس التي تقوم عليها العمليات البنكية بصفة عامة .
وعموما لا يتم اللجوء إلى التحكيم في العمليات المصرفية إلا بعد رضا الأطراف واتفاقهم عليه بدلا من اللجوء إلى القضاء ويتطلب ذلك الاتفاق مجموعة من الشروط والإجراءات، كما يترتب عليه مجموعة من الآثار لابد من مراعاة القواعد المتعلقة منها بالنظام العام وبالتالي استبعاد كل نزاع يتعلق بالنظام العام من عرضه على أنظار المحكمين.
لأن اتفاق التحكيم طريق استثنائي لفض المنازعات خروجا على اختصاص الولاية العامة لمحاكم الدولة ومن ثم فإن اتفاق التحكيم يرتب أثار على الاختصاص سالبا بالنسبة لمحاكم الدولة وجالبا بالنسبة لهيئات التحكيم.