معضلة «بريكست» ..خطة «جونسون» لمصالحة مجلس العموم والخروج من التكتل القارى


استفاد رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون، من أخطاء الماضى ويسعى الآن لكسب ود مجلس العموم البريطانى للخروج من الاتحاد الأوربى بشكل توافقى يضمن استمراه فى منصبه، خاصة بعد الهزائم المتتالية التى تلقاه نتيجة اصراره على مواقفه.
الخسارة الأولى لـ"جونسون" جاءت عندما أعلن تعليق أعماله فى الشهر الماضى، عندما قررت المحكمة العليا فى بريطانيا إلغاء قراره، فى خطوة اعتبرها قطاع كبير صفعة قوية لمشروعه للخروج من الاتحاد الأوروبى بدون اتفاق، مما أثار تكهنات حول احتمالات استقالة الحكومة البريطانية، وخروج جونسون من منصبه، ليلقى نفس المصير الذى لاقته رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماى، بعد معارك خاسرة مع البرلمان، وهو الأمر الذى يثير التساؤلات حول ما إذا كان الطلب الذى تقدم به جونسون لرئيس المجلس الأوروبى دونالد توسك بتأجيل "بريكست" إلى شهر يناير المقبل، مجرد قرار بالاستسلام فى المعركة، أم أنها مناورة يسعى من خلالها لتحقيق مكاسب على العديد من الجبهات، ومجابهة التحديات المتزامنة التى تواجهها حكومته.
موقف جونسون من الاتحاد الأوروبى ليس مجرد موقف سياسى، وإنما يحمل فى طياته حدة شديدة، فهو على عكس أسلافه، الذين حاولوا الالتفاف على نتيجة الاستفتاء الذى أجرته بريطانيا فى عام 2016، عبر تطبيق ما يمكننا تسميته بـ"الخروج الشكلى" من التكتل القارى، وهو ما بدا واضحا فى الاتفاقات التى توصلت لها ماى مع قادة أوروبا، بالبقاء تحت سيادة محكمة العدل الأوروبية، مقابل الاحتفاظ بالاتفاقات التجارية بين لندن وبروكسل، وهو الأمر الذى أثار حفيظة مؤيدو "بريكست" سواء داخل بريطانيا أو خارجها، لتفقد ماى الدعم السياسى المطلوب ليس فقط من البريطانيين، وإنما من الخارج أيضا، حيث قرر جونسون نفسه الاستقاله من منصبه كوزير للخارجية فى حكومة ماى، على إثر الاتفاق، فى خطوة مهدت الطريق فعليا أمام انهيار حكومتها، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من عام، إثر الرفض المتواتر من قبل البرلمان لاتفاقاتها مع أوروبا، بالإضافة إلى حالة الانقسام التى ضربت معسكر حزب "المحافظين" الحاكم، مما وضعها فى موقف حرج سواء أمام أنصارها أو خصومها فى الداخل.
لم تتوقف حالة الامتعاض على الجانب المؤيد لـ"بريكست" داخل بريطانيا، وإنما امتدت إلى الخارج، وهو ما بدا واضحا فى موقف الولايات المتحدة، حيث أبدى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب رفضه للاتفاق، مطالبا ماى ليس فقط بالخروج من أوروبا بدون اتفاق، ولكن أيضا بمقاضاة الاتحاد الأوروبى، معربا عن تأييده لجونسون، فى تصريحات أثارت حالة من الجدل داخل لندن، على اعتبار أن الدعم الأمريكى للوزير المستقيل آنذاك تمثل تدخلا سافرا فى الشأن الداخلى البريطانى.
الخروج من أوروبا ليس المعضلة الوحيدة التى يواجهها جونسون، حيث أنه لا يرغب فى الوقوع فى نفس الأخطاء التى ارتكبتها ماى، والتى أفقدتها فى النهاية كل أشكال الدعم، حيث يسعى إلى تحقيق "بريكست" حقيقى وسريع، دون التفاف على نتائج الاستفتاء، كما أنه يرغب كذلك فى تحقيق التوافق مع البرلمان، بالإضافة إلى عدم خسارة الدعم الأمريكى له، خاصة وأن واشنطن أكدت عزمها على توقيع اتفاق تجارى غير مسبوق مع لندن، فى حالة الخروج من أوروبا، من شأنه تعويضها عن الخسائر الناجمة عن الخروج من تبعية القارة العجوز.
فلو نظرنا إلى الخطاب الذى أرسله جونسون إلى رئيس المجلس الأوروبى للمطالبة بالتأجيل، نجد أنه يحمل فى طياته جفاء، يعكس الميول الشخصية للرجل، بالإضافة إلى التحديات التى يواجهها فى الداخل والخارج، فالخطاب جاء بدون توقيع يطلب التأجيل، ومبررا الطلب باحترام القانون، ومرفق معه نسخة مصورة من القانون، والمعروف باسم قانون "بن"، بالإضافة إلى تأكيده بعدم رغبته فى تأجيل الخروج، وهو ما يعطى انطباعا بأن الخطوة التى يتخذها الرجل جاءت على مضض، فى إشارة صريحة إلى الكراهية التى يكنها الرجل للاتحاد الأوروبى.
إلا أن كراهية جونسون لأوروبا الموحدة، ليست الدافع الوحيد وراء حالة الجفاء، التى اتسم بها خطاب جونسون لرئيس المجلس الأوروبى، ولكنها تحمل رسالة ضمنية، برغبته فى إبرام صفقة مع العديد من الأطراف، أولها البرلمان البريطانى، حيث أنه يسعى لتقديم تنازلات من أجل الحصول على الدعم اللازم لتمرير صفقة الخروج التى توصل إليها، عبر التأكيد على احترامه للقانون، والذى يلزمه بعدم اتخاذ خطوة الخروج من الاتجاد إلا بعد تصديق البرلمان البريطانى، وهو الأمر الذى يتطلب تأجيل الخطوة إلى ما بعد الموعد المقرر فى 31 أكتوبر، كما انه فى الوقت نفسه يمثل رسالة لمؤيدو "بريكست" بإصراره على السير فى نفس الطريق، دون مواربة، بحيث يكون الخروج من عباءة الاتحاد الأوروبى هو خروجا فعليا، وليس شكليا على غرار محاولات أسلافه، وهو الأمر الذى يضفى قدرا كبيرا من المصداقية على سياسته فى المرحلة المقبلة.