مقالات

جمال رشدي يكتب.. أمي والهوية المصرية

خط أحمر

يتناول الكثيرين الهوية المصرية من منظور العلم والتاريخ وسطور الكلمة، ولا يدركون أن تلك الهوية هي موروث جيناتي يسلمه جيل لآخر، فمفهوم الهوية عند الكثيرين هو آثار الحضارة المصرية المتواجدة في كل مكان بأرض مصر، كل ذلك ليس صحيحاً فالهوية هي الموروث الحياتي الثقافي الفلكلوري الذي يستلمه الأبناء من الأباء والأجداد، ويتم تسليمه للأحفاد، وهو نمط معيشي في المأكل والملبس والتعاملات والسكن والعمل والسلوكيات، وهذا ما جعل الشخصية المصرية متفردة عن باقي الأجناس البشرية، لأن لها جذور وعمق تاريخي يخترق جدار بداية التاريخ.

وأمي التي رحلت إلي السماء منذ أيام، كانت رسول حي للهوية المصرية، تعايشت معه بالجسد والروح لمدة خمسون عاماً، واستلمت منها تلك الهوية لكي أسلمها لأولادي وأحفادي، كانت البداية هو ثدي حنانها الذي ترعرعت فيه، وعند النطق بأول حروف الكلمات كانت كلمة أمي، التي كانت تصطحبني في كل زيارتها للأهل والأقارب والأحباب وأنا طفل صغير، هنا موروث الترابط الاجتماعي والإنساني الذي استلمته أمي من أبائها وأجدادها، وسلمته لي كتاب مقدس حي، فالخال هو الوالد والخالة هي آلام والعم هو الأب والأخ هو السند والأخت هي الحنان والجيران هم الأقارب هكذا تعلمت من أمي المعني الحقيقي للمحبة والتسامح والإخاء.

أمسكت يدي ومعها القلم الرصاص لكي تعلمني أن اكتب أول حروف الكلمات، لا تنزل عن السطر يا ابني وكأنها تعلمني استقامة الخط والأخلاق ، وفي حضن الكنيسة كانت تصطحبني لتعلمني الصلاة والألحان وتقول لي هنا المسيح العطاء والشبع لكل جعان.

أمام فرن الخبيز الصعيدي تجتمع نساء الأقارب والجيران ليشتركوا في يوم الخبيز ، يوم غير عادي يوم فرح تقريباً، وفي أثناء ذلك ترسل أمي العيش البتاو السخن إلي الأقارب والجيران وربما معه طاجن البطاطس أو البدنجال، ولا انسي فتة عيش البتاو بالسمن البلدي أو الفطير الرقاق، هكذا كانت تفعل كل السيدات في ذلك الزمان.

وعلي طبلية كبيرة كانت تجمع كل أفراد المنزل ومعهم أولاد العمومة والخالة، لتغذينا من فيض خيراتها، وتروينا من نبع حنانها، لم يكن الغذاء أكل بل أحضان محبة وود وتسامح ، وفي المحبة يحدث الانصهار ما بين أخيك وابن عمتك وابن خالتك وكل أطفال الجيران، هكذا هي الهوية المصرية المحبة التسامح التلاحم التماسك الوحدة .

وفي المجلس عند الكبار أنصت للأحاديث واحترم وأحب الكبير وكل الحضور ، أراها مثقفة قوية في الكلمة والتعبير، صوتها حاضر في كل الأحاديث وحكمتها تعطيها الصدارة والقيادة في كل ما يطرح من موضوعات، كانت المثل والقدوة، لأنها لم تكن امرأة بالمعني التقليدي، بل كانت قائدة ثائرة مناضلة عظيمة ضد كل الظروف والأوضاع ، لم تستلم يوماً ما لعنف الزمان أو قسوة الأيام، وهكذا استلمت منها حياة النضال والانتصار في كل المعارك.

وفي آخر النهار كنت أراها تقف وترفع يدها للسماء ليس لكي تطلب، بل لتشكر علي كل حال ومن أجل كل حال ، كنت اسمعها تشكر الله علي الصحة وعلي الستر، وتصلي من اجل كل تعبان ومريض ومحتاج ، كانت هكذا طول فترة حياتها، لديها ثقة ويقين في صلواتها مهما تأخر طلبها ، كانت غنية بالإيمان وعند تقدمها في الأيام كنت أطلب منها، أن لا تصوم من أجل قسوة طعام الصيام على صحتها، فكانت ترفض وتنتهرني بقوة وتقول كيف أفطر في الصيام المقدس هكذا استلمت منها الإيمان.

وفي مناسبات وأعياد أخواتي المسلمين أراها تذهب إليهم في المنازل لتزورهم، وتقدم لهم الواجب والتهاني وتطلب مني إن لا أنسى أحد من الجيران لكي اهنئة ، نعم رحلت الهوية المصرية أمي الذي أرضعتني مصريتي، أنها كانت حقاً حفيدة أجدادي عظماء التاريخ أنها حقا كليوباترة وحتشبسوت في شموخها وعظمتها وقناعتها وحكمتها وصبرها ونضالها وقوتها وحكمتها.

شارفنا أنا وأخواتي العقد الرابع والخامس من أعمارنا، لكن كنا عندها كأطفال تهتم بشئوننا واحتياجاتنا ومتطلباتنا وتعطينا النصيحة والرشد ، كانت شمعة تحترق من أجل أن تضئ لنا الطريق. 

كم كانت عظيمة كعظمة مجد مصر في الماضي ، رحلت أمي بالجسد ولكن سوف تعيش معي بالهوية، وكل ما استلمته منها لكي استكمل طريق نضالها وأُسلم ما استلمته إلي أولادي وأحفادي وكل من حولي ، شكرا أمي وأتعهد أمام الله وروحك سأكون كما كنني تطلبي مني وتتمنين لي .

جمال رشدي أمي والهوية المصرية خط احمر
قضية رأي عامswifty
بنك مصر
بنك القاهرة