مقالات

أحمد رجب يكتب ..( عش أنت !! )

خط أحمر

غدا كلاً منا وكأنه تنازل طواعية وإختياراً عن حقة في الحياة مخولاً غيرة هذا الحق الأصيل الذي هو من صميم الحقوق الدستورية التي نص عليها الدستور في بابة الأول!! .. ولم يكن هذا التنازل مكتوباً أو موثقاً .. لم يكن لفظياً أو شفهياً ..بل كان تنازلاً ميتافيزيقياً غير محسوساً أو معلوماً أو مادياً .. تنازلاً أعمي غير مرئي للغير وغير مرئي للشخص نفسة الذي تنازل عنة وعن حقة الأصيل في الحياة !! ..

ولا أقصد هنا ياسادة بالحق في الحياة أن ينبض القلب أو تستمر الدماء تسري في شرايين الجسد أو أن تستمر الروح قاطنة داخل هذا السجن الجسدي العضوي .. فرؤيتي تتجاوز معاني سلب و فقدان الحياة المألوفة إلي أفاق اخري من الموت التي لا تصعد معة الروح إلي بارئها !! .. فهذا الأخير أصعب وأشد وطأة من الموت الذي تغادر الروح فية الجسد !! .. وإن كان للموت الطبيعي سكرات لا تتجاوز الدقائق المعدودة يعقبها خروج وإرتقاء الروح إلي الملا الأعلي فإن للموت الميتافيزيقي سكرات تتجاوز الدقائق والساعات بل والأيام والشهور وقد تصل إلي سنوات عجاف يشعر فيها المرء وكأنة قد تنازل عن حقة الأصيل في الحياة مانحاً غيرة هذة الحياة خاصة إن كان هذا الغير ممن يستطع التكيف والتوائم مع طبيعة الحياة المستجدة .

بإختصار وبعيداً عن رؤي فلسفية قد تربك الفهم لدي بعض القراء فإن معطيات الواقع الحالي قد خلت من كل دوافع البقاء اللهم سوي من يجيد فهم الخلافة في الأرض من قول الله تعالى للملائكة " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " وليس المقصود بالخلافة هنا القيادة أو الإمارة أو السيادة وإنما عبادة الله وأداء التكاليف التي أمر بها الله .. وكل من بعد هذا المعني لم ولن يشعر بمقومات وأسباب الحياة .. وكلما ضاقت وإحتكمت الدائرة ظن البعض أن ذلك الإبتلاء بسبب كذا أو كذا ولم يكن كذا أو كذا سوي أسباب مادية دنيوية من وجهة نظر المبتلي ..

ولو أطلق لنفسة العليلة العنان ولفكرة العقيم المجال ولقلبة السقيم الخفقان الطبيعي والإنسجام لعلم كل العلم أن النفسي منها ومن وجهة نظري المتواضعة نفساً بعيدة وهي الأمارة بالسوء الفاجرة ومنها القريبة المستوية التقية .. وأن هناك أسباب وعوامل ملهمة للنفس القريبة هذة وللنفس البعيدة تلك .. وما الإلهام إلا من عند الله المطلع علي خفايا الأنفس .. والذي هو الأوحد الذي يلهمها فجورها وتقواها !! ..

لو فطن المبتلي لهذا الأمر البسيط لصحت نفسة العليلة وتعافي قلبة السقيم وتفتحت أزهار عقلة العقيم .. فالإيمان بمقدرات وقدر الله وقضاءة من مسلمات العقيدة وأسس البقاء وأسباب السعادة والبعد عن ذلك يوقف القلب وإن دق وتضاعفت دقاتة !! .. ويسلب الروح وإن بقت حبيسة للجسد وقاطنة بداخلة !! .. ويصيب العقل بالعقم وإن ظل يجتهد ويعمل ويفكر !! .. ويحبط النفس ويلوح لها من بعيد بعوامل الإلهام السلبية فتكون إحتمالية سقوط النفس البعيدة في براثن الفجور أقوي بكثير من بقاء النفس القريبة ذات الزكاوة والطهر والتقوي !! .. وفي هذة الحالة يشعر الإنسان وكأنة قاطن وراء الطبيعة .. يشعر بالموت وهو لم يمت .. يشعر بسكرات من الإحباط واليأس والتخبط وفقدان شهية البقاء وهي سكرات وكما ذكرت في صدر المقال قد تستمر معة سنوات وسنوات لتتجاوز سكرات الموت الطبيعي المؤلم !! .. مع تأكيدي التام بأنة لايجوز القياس الفعلي بين سكرات هذا وسكرات ذاك لكنة قياس مجازي لتقريب المعني المحمود والغرض المنشود !! .. وعندما يموت الإنسان موتاً ميتافيزيقياً يكون في نفس لحظة موتة متنازلاً عن حقة في الحياة لغيرة ممن لم يأت عليهم الدور ولم يحن موعدهم بعد للتعرض لهذة النوعية من الموت !! .. وهكذا وكما ذكرت في صدر الكلام هو تنازل غير مكتوب ولا موثق ولا لفظي ولا شفهي .. هو أعمي كصاحبة .. أعمي البصر والبصيرة معاً !! .. كثيراً منا تنازل عن حقة في الحياة .. كثيراً منا مات ميتافيزيقياً .. ومعظم هؤلاء كان الهجر والصد والبعد وهي معاني كلها تدور في فلك العاشقين .. كانت هذة العوامل هي أهم أسباب مصرع هؤلاء الذين ماتوا وإن إستمروا بعد ذلك سنوات وسنوات علي قيد الحياة .

وبعيداً عن الفلسفة وعن الدين وعن كل ماسبق .. وفي نهاية كلامي أؤكد أنني وإن كنت ناقداً لمن تنازلوا عن حقوقهم في الحياة ومنحوها لغيرهم إلا أنني أشفق علي بعضهم خاصة إن كان هذا البعض ممن تركوا لنا تراثاً ثقافياً عظيماً وعلماً لغوياً عميقاً .. خاصة إن كان هذا البعض من مؤسسي مدارس الفكر ونظار الكلاسيكية اللغوية القديمة !! .. وأسوق لحضراتكم مثالاً حياً تطبيقياً لهذا البعض من الذين إختاروا الموت طواعية وتنازلوا عن الحق في الحياة من أجل الآخرين .. إنة " الأخطل الصغير" أو بشارة عبدالله الخوري هذا ااشاعر اللبناني القدير الذي اطلقت علية الصحافة العربية في ستينيات القرن الماضي لقب " الأخطل الصغير " تشبيهاً لة بالأخطل الأموي كبير كبراء شعراء العرب في العصر الأموي ..

في اواخر ستينيات القرن الماضي كان الموسيقار الكبير فريد الاطرش متواجداً في زيارة خاصة لمسقط رأسة لبنان .. تقابل هناك مع الكاتب الصحفي الكبير جورج الخوري وكان الأخير هو رئيس تحرير أشهر المجلات الفنية المصورة في لبنان وهي مجلة الشبكة اللبنانية وبالصدفة تحدث جورج عن القصيدة الأخيرة التي كتبها قريبة الشاعر اللبناني الشهير بشارة الخوري وقال لفريد بالحرف الواحد " يااااة .. لو تغني القصيدة دي يافريد .. إنها رااائعة وأمنية حياتي أن تشدو بها في عيد الربيع " .. وإندهش فريد وسأل جورج عن إهتمامة بهذة القصيدة بالذات ؟؟ .. وأخبرة الكاتب الصحفي الكبير جورج الخوري أن هذة القصيدة بالذات تجسد قصة حب حقيقية ودامية عاشها قريبة شاعر الفصحي الشهير بشارة الخوري مع فتاة لبنانية مسلمة وأن إختلاف الديانة قد حال دون إتمام حكايتهما بالزواج وأن الفتاة قد إختارت الهجر والبعد منعاً للمشاكل والتوترات وأن بشارة لم يفرض نفسة عليها فهو الشاعر المعروف وفارس اللغة العربية في ذلك الوقت وشخصية عامة شهيرة في بيروت وفي العالم العربي كلة وأن هذة القصة من أدق أدق تفصيلات حياتة ولا أحد يعرف عنها أي شئ .

تحمس فريد الأطرش وسال لعابة مؤكدٱ لجورج أن معظم القصائد الغنائية التي تجسد واقعٱ حقيقيٱ تكون رائعة ومعبرة وصادقة وتدخل علي الفور قلوب الجماهير .. وطلب فريد أن يقرء القصيدة .. وبعد قراءتها كاد أن يغشي علية من فرط إعجابة بها وبكلماتها وبالإحساس والمشاعر والتشبيهات البلاغية طاغية الجمال التي تتراقص بين السطور والكلمات .. ولكن توقف فريد عند أحد أبيات القصيدة وحملقت عيناة وظل يردد مخاطبٱ صديق عمرة جورج الخوري قائلٱ " لالا ياجورج .. ياخسارة .. أنا مستحيل أغني القصيدة دي إلا لو تم حذف كلمة واحدة منها .. لو تم الحذف فأنا سأغنيها " وطلب فريد من جورج تحديد موعد سريع جدا مع كاتب القصيدة وبالفعل تم تحديد الموعد في منزل الشاعر العملاق بشارة الخوري .. وإندهش بشارة من تصرف قريبة الكاتب الصحفي جورج الخوري .. وبعد أن رحب ترحيبٱ كبيرٱ بإبن بلدة الفنان والموسيقار الكبير فريد الاطرش .. قال مخاطبٱ قريبة جورج الخوري " ومين قالك ياجورج إني موافق علي غناء القصيدة .. فريد عارف أنا بحبة قد أية ومؤمن بموهبتة قد أية .. لكن دة سر من أسرار حياتي .. دي قصة حبي الوحيدة اللي موتتني حيٱ .. أنا حابب تفضل القصة دي حبيسة قلبي وحبيسة ورقي " .. قال فريد لة " وأنا حابب يابشارة أنها تفضل طليقة لساني وأعزف لحنها علي عودي وأوصل معناها للهانم اللي أنت وهبتها الحب دة كلة يابشارة .. يمكن لما تسمعها تتغير حاجات كتيرر " .. رد بشارة " لو سمعتها ألف مرة لم ولن تغير من الأمر شئ !! " .. ابتسم فريد مؤكدٱ وقائلٱ " حتي لو زي مابتقول .. يكفي يا أخي تعرف أنت حبتها قد أية .. حب خلاك تدفن نفسك بالحياة من أجل أن تحيا هي وتعيش " .. وترجاة قائلاً " أرجوك يابشارة وأنا عمري ماترجيت من شاعر مهما كان قدرة أن أغني شئ من كتاباتة .. أرجوك أنا حابب أغني القصيدة دي بالذات .. حابب أقوم بتأليف لحن خاص لها .. حابب كمان اغنيها في فيلمي الجديد .. حابب أغنيها في حفلي في عيد الربيع .. عاوز الدنيا كلها تسمعها يابشارة " .. ووافق بشارة الخوري .. وطار الكاتب الصحفي جورج الخوري من الفرحة .. وقبل أن يغادر فريد الاطرش منزل بشارة الخوري همس فريد في أذن بشارة قائلاً " ليا رجاء أخير لو تسمح .. في شئ صدمني في القصيدة .. ودة اللي خلاني اجيلك من الأساس .. أنا في كلمة لازم أحذفها .. ولو موافقتش يبقي بكل أسف مش هغني القصيدة يابشارة " .. رفع بشارة حاجبة متسائلا " كلمة إية دي ؟؟!! ' 

قال فريد .. في بيت في القصيدة .. قبل اخر القصيدة بقليل .. بتقول فية " وحياة عينك وهي عندي مثلما القرآن عندك " .. ضحك بشارة مؤكدٱ حسن نيتة ونبل قصدة وأن هذا تشبية لعظمة وقدسية حبة .

إلا أن فريد أكد لة بأنة لايجوز القياس أو التشبية وانة لا يوجد ولم ولن يوجد ماهو اعظم من كتاب الله وإن لم يتم حذف الكلمة فلم ولن تخرج القصيدة للنور بكل أسف .

وإبتسم بشارة ووافق علي حذف الكلمة إحترامٱ للدين الإسلامي والكتاب الحنيف القرآن الكريم وتلبية لرغبة الملحن والموسيقار الكبير فريد الاطرش وتم إستبدال الكلمة بكلمة أخري وهي " الإيمان " وتعمد بشارة أن يمزح مع فريد قائلاً " ها .. في حاجة تانية ياسيدي " .. وهلل جورج الخوري من الفرحة وأصبح البيت الغنائي كالتالي " وحياة عينك وهي عندي مثلما الإيمان عندك " وعاد فريد للقاهرة واعتكف علي وضع لحن مميز للقصيدة وبالفعل غناها فريد في فيلمة الجديد حينذاك وكان إسم الفيلم " زمان ياحب " مع النجمة الجميلة زبيدة ثروت .. بل وتعمد فريد إختيار نفس هذة القصيدة ليغنيها في حفلتة الشهيرة في عيد الربيع بل وطلب من الشاعر والإذاعي الكبير فاروق شوشة أن يقدم الحفل وأن يسرد للجمهور كلمات القصيدة ورغم أن هذا الحفل قد تصادف مع نفس حفل عيد الربيع للمطرب عبدالحليم حافظ وهو ماجعل الإذاعة المصرية تحتار .. فأي حفل منهما سوف تبثة الإذاعة المصرية علي الهواء !!! .. وكان فهمي عمر رئيس الإذاعة المصرية في ذلك الوقت ذو حنكة ومهارة وثقافة عالية وإدارة حكيمة فأمر بأن حفل فريد الاطرش إبن لبنان وجبال الإرز يذاع على الهواء مباشره عبر اثير موجات صوت العرب وحفل حليم ولأن الأخير إبن مصر ومحافظة الشرقية يذاع على الهواء مباشرة عبر أثير البرنامج العام .. وهكذا فإن البعض ممن تنازلوا عن حق الحياة قد تركوا لنا في ذات الوقت ومضات مضيئة يخفق لها القلب !!

وصعد فاروق شوشة علي المسرح ليقدم كلمات القصيدة .. وكان بشارة الخوري يجلس في منزلة بلبنان ينتظر إذاعة القصيدة .. وبمجرد أن بدء اللحن وبمجرد أن تغني فريد بكلماتة قائلاً " عش أنت إني مت بعدك .. وأطل إلي ماشئت صدك " إنفجر بشارة الخوري في بكاء شديد ..... وللحديث بقية

أحمد رجب عش أنت خط أحمر
قضية رأي عامswifty
بنك مصر
بنك القاهرة