محمد عبداللطيف يكتب: أمي


غداً سابوح لك بأوجاع خباتها.. غداً ساروي لك يا صغيرتي، لماذا أحن لطيف صورة لا تفارق ناظري ، أراها أمام الباب ، وعلي الجدران ، تنتظر بلهفة قدومي .
يا ابنتي .. انني أحن لامي ، و أعانق احزاناً تطاردني ،و أسترجع شريط حياتى كلها، شقاوة الطفولة فى السنوات البعيدة، عناد أيام الصبا ، و عنفوان بواكير الشباب .
يا ابنتى.. حين يفقد المرء امه ، يغوص تائهاً في بحار بلا شواطئ، باحثاً عن طوق نجاة فى دعاء صادق ،يحيط به كسياج يحميه، ويقيه من شرور البشر.
يا ابنتي ..في مثل هذا اليوم منذ أربع سنوات بالتمام والكمال ،طرق الموت بابى بقسوة، مزقت روحى، تلقيت على هاتفى خبر وفاتها.. نزل الخبر على أذنى بلا رحمة، كصاعقة، لا طاقة لى بها، ولا قدرة لى على احتمالها، ولمَ لا، فإذا كان المرء منا يشفق على كل من يأتيه خبر موت عزيز لديه، فما بالنا إذا كان الخبر ، الفاجعة ، يخص أعز الناس .
كان موت أمى حدثًا جللًا لى قولاً وفعلاً .. موتها ترك وجعاً سيظل يسكن بين الضلوع ما حييت ، وحزنا لن تبدده الأيام ولن تمحوه السنون، إن كان فى العمر سنون.
أعلم يقينًا أن الموت قدر لا مفر منه، كما أننى أومن بأنه حقيقة أبدية، فالموت كأس وكل الناس ستشربه، والقبر دار وكل الناس ستسكنه.. وإن كان هذا يخفف من قسوة الحزن، لكننا فى النهاية بشر، نحب و نكره، نفرح و نتألم، لذا فإننى لا أجد حرجاً فى أن أبوح لك يا صغيرتي ، بما يجتاح كيانى، من تضاد بين أنين مكتوم و واقع لا بد من التعايش معه، بين حكايات وذكريات، وما تفرضه علينا الظروف والمسئوليات الحياتية.
ليس بمقدورى أن أتجاوز أوجاع توطنت بداخلى، وجميعكم يا سادة يا كرام يعرف ويعى أن الحزن فى بلادنا ميراث، لا يسقط بمرور الزمن، لكن ربما يخفف البوح من عنفوانه وقسوته على النفس.
عفوًا.. أنا تحدثت لصغيرتي فهي تريد ان تعرف ، لانها من جيل مسلح بفضيلة التساؤل ، وتحدثت اليكم ، بما لا يعنيكم، لكن ربما يصغى بعضكم لما تحدثت به، وربما يعرض البعض الآخر، فإن كان يعنيكم أو لا يعنيكم، وأغلب الظن أنه لا يعنيكم، باعتباره شأنًا خاصًا ابوح به ، إلا أن ما كتبته ليس شأنًا خاصًا، لأننى أكتب عن الأم فهى شأن الكل، وربما تتشابه حكايتى مع مئات الآلاف من حكايات الحزن على فقدان الأمهات، باعتباره "كاس داير". هؤلاء الآلاف من ذوى الحكايات، وأنا واحد منهم، يشعرون بمعنى فقدان الام، لأنهم يفتقدون الحب، والعطاء الدائم بلا مقابل.. و ما أسعد اللحظات التي يستمع فيها الانسان منا إلى أغنية "ست الحبايب يا حبيبة، يا أغلى من روحى ودمى، يا حنينة وكلك طيبة، يارب يخليكى يا أمي "، لا أعرف كيف سيكون وقع كلماتها على شخص مثلى ليس له سوى اجترار الذكريات.. وما أجمل أن ينشد المرء منا القصيدة الرائعة، أيقونة الشاعر الفلسطينى محمود درويش، التى قال فيها: "أحن إلى خبز أمى، وقهوة أمى، ولمسة أمى، وتكبر فى الطفولة يوما على صدر يوم، وأعشق عمرى، لأنى إذا مت، أخجل من دمع أمى، خذينى إذا ما عدت يومًا، وشاحًا لهدبك وغطى عظامى بعشب، تعمد من طهر كعبك.. وشدى وثاقى بخصلة شعر.. بخيط يلوح فى ذيل ثوبك".. ما أروع تلك الكلمات.